حديث: «فإذَا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به» تحليل ومناقشة
من أعظم ثمرات المواظبة على طاعة الله -تعالى- أنها تورث العبد محبة الله وولايته له، وقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة على ترسيخ هذا المعنى في نفوس المؤمنين؛ يقول الله -عز وجل-: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (يونس: 62- 63)، وقد استنبط العلماء من تلك النصوص قاعدة مُنيفة، هي: كل من كان مؤمنًا تقيًّا كان لله وليًّا.
ومقالتنا هذه مع حديث قدسي شريف يشرح هذا المعنى الجليل ويبرزه، وفيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه -سبحانه-: «فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ…»، سنتناوله بالشرح والتحليل، ثم نتبعه بالرد على ما أثير حوله من شبهات، والسعيد من عَلِمَ فعمِلَ.
وأوَّل ما يُستهل به هو ذكر نص الحديث؛ فإن المرء لو تأمَّله وأنعم النظر فيه، لدلَّه على المعنى المراد، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأما قوله صلى الله عليه وسلم : كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ»؛ فلو ذُكر الحديث بألفاظه لعُلِم أن معناه ظاهر لا يحتاج إلى تأويل.
نص الحديث
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ».
شرح الحديث
هذا حديث جليل عظيم القدر، وقد عدَّه شيخ الإسلام ابن تيمية أصح حديث وأشرف حديث يُروى في صفة الأولياء، فمعنى قوله: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ»، أي: من اتَّخذ وليَّ الله -تعالى- عدوًّا؛ فقد أعلمه الله -تعالى- بأنه محاربٌ له، وقوله: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ» إلى قوله: «حَتَّى أُحِبَّهُ»، فيه حصر أسباب محبته -تعالى- في أمرين هما: أداء فرائضه، والتقرب إليه بالنوافل.
أداء الفرائض
وقد أخبر -سبحانه- أن أداء فرائضه أحبُّ ما يتقرب به إليه المتقربون، ثم بعدها أداء النوافل، وأن المحب لا يزال يكثر من النوافل حتى يصير محبوبًا لله، فإذا صار محبوبًا لله أوجبت محبته لله له محبة أخرى منه فوق المحبة الأولى؛ فشغلت هذه المحبة قلبه عن الفكرة والاهتمام بغير محبوبه، وملكت عليه روحه، ولم يبق فيه سعة لغير محبوبه البتة؛ فصار ذكر محبوبِه وحبّه ومثله الأعلى مالكًا لزمام قلبه، مستوليًا على روحه استيلاء المحبوب على محبة الصادق في محبته، التي قد اجتمعت قوى محبة حبه كلها له، ثم يكون من نتيجة ذلك ما يلي:
عظمة الله -تعالى
«فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ...» والمعنى: أنه متى امتلأ القلب بعظمة الله -تعالى- محا ذلك من القلب كل ما سواه، ولم يبق للعبد شيء من نفسه وهواه، ولا إرادة إلا لما يريده منه مولاه؛ فحينئذٍ لا ينطق العبد إلا بذكره، ولا يتحرك إلا بأمره؛ فإن نطق نطق بالله، وإن سمع سمع به، وإن نظر نظر به، وإن بطش بطش به؛ فهذا هو المراد بقوله: «كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها»، ومن أشار إلى غير هذا؛ فإنما يشير إلى الإلحاد من الحلول أو الاتحاد، والله ورسوله بريئان منه.
ومع وضوح دلالة الحديث، وشدة انتفاع أهل الإيمان بما فيه، إلا أن بعض أصحاب الأهواء والبدع تأوَّلوه على غير المراد منه، وصرفوه عن مقصوده، اتباعًا لما تشابه، وتركًا للمحكم، وفيما يلي شبهتهم والجواب عنها:
شبهة أهل الإلحاد
زعم أهل الاتحاد والحلول أن قوله: «كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ…» على حقيقته، وأن الحق -سبحانه- عينُ العبد! تعالى الله عمَّا يقول الظالمون علوًّا كبيرًا!
وهذا القول من الاتحادية فاسد من وجوه كثيرة، بل هو كفر صريح بالله -تعالى- والجواب عن هذه الشبهة من وجوه:
- أحدها: أن ما جاء في آخر الحديث صريحًا ينفي تلك الشبهة تمامًا، وهو قوله: «وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «ومن المعلوم أن هذا صريحٌ في أن السائلَ المستعيذَ ليس هو المستعاذُ به، ويقول الحافظ ابن حجر: فلا متمسك فيه للاتحادية ولا القائلين بالوحدة المطلقة؛ لقوله في بقية الحديث: «ولئن سألني…ولئن استعاذني»؛ فإنه كالصريح في الرد عليهم.
- الثاني: أنه ورد على سبيل التمثيل، والمعنى: كنت سمعه وبصره في إيثاره أمري؛ فهو يحب طاعتي ويؤثر خدمتي، كما يحب هذه الجوارح؛ يقول الإمام الخطابي: هذه أمثال ضربها، والمعنى -والله أعلم-: توفيقه للأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء، وتيسير المحبة له فيها؛ فيحفظ جوارحه عليه، ويعصمه عن مواقعة ما يكره الله من إصغاء إلى اللهو بسمعه، ونظر إلى ما نهى عنه ببصره، وبطش إلى ما لا يحل له بيده، وسعى في الباطل برجله.
- الثالث: من المعاني المستفادة: أن جميع جوارحه مشغولة بالله -تعالى- فلا يصغي بسمعه إلا إلى ما يرضيه -سبحانه- ولا يرى ببصره إلا ما أمر الله -تعالى- به.
- الرابع: أن الله -تعالى- يُحصِّل للعبد مقاصده، كما يناله بسمعه وبصره.
- الخامس: أن الله -تعالى- يكون له في العون والنصرة كبصره ويده اللذين يعاونانه على عدوه.
- السادس: أنه على حذف مضاف، والتقدير: كنت حافظ سمعه الذي يسمع به، فلا يسمع إلا ما يحل استماعه، وحافظ بصره كذلك.
- السابع: أن يكون معنى سمعه: مسموعه؛ لأن المصدر قد جاء بمعنى المفعول، مثل فلان أمَلي بمعنى مأمولي، والمعنى: أنه لا يسمع إلا ذكري، ولا يلتذ إلا بتلاوة كتابي، ولا يأنس إلا بمناجاتي، ولا ينظر إلا في عجائب ملكوتي، ولا يمد يده إلا فيما فيه رضاي، ورجله كذلك.
وهذه الوجوه تدمغ شبهتهم، ويزداد المؤمنون إيمانًا؛ فطوبى لعبدٍ استنار قلبه، وظهر له الطريق الموصل لمرضاة الله -تعالى- والتقرب إليه، فسلكه واجتهد فيه؛ نسأل الله -تعالى- لنا ولجميع إخواننا المسلمين الهداية والتوفيق لمرضاته، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا.
لاتوجد تعليقات