حديث أبي ذر..رؤية إدارية (2)
أضحى تلمس الرؤى الإدارية من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أمرًا مُلحًا لجيل لم يرَ إلا كتب الإدارة الغربية القادمة من بيئة علمانية التوجه بوضوح، ومع النظام العالمي الجديد بسمومه الثلاث: المادية والفردية والاستهلاكية، نحتاج إلى مواجهة صريحة في كل ساحات العلوم وفي كل ساحات التخصص، يتصدى لها رجال عقيدة وهوية قبل أن يكونوا رجال تخصصية واحترافية، والجمع بينهم هو المطلوب؛ رجال الإيمان والعمران وأخلاق القرآن، ونكمل في هذه الحلقة الفوائد الإدارية من حديث أبي ذر رضي الله عنه الذي رواه الإمام مسلم وأحمد عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه ، قال: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَلاَ تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَىَ مَنْكِبِي، ثُمّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ إنّكَ ضَعِيفٌ وَإنّهَا أَمَانَةٌ، وَإنّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إلاّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقّهَا وَأَدّى الّذِي عَلَيْهِ فِيهَا».
معادلة المؤسسة الناجحة:
أ- موظف طموح يجد من يتكلم معه ويصارحه.
ب- قائد شجاع ينصت ويكاشف ويحتوي.
ج- وقيم ونظام تحكم الجميع.
فغيرة سيدنا أبي ذر في خدمة أمته وخوفه من عدم استخدام الرسول صلى الله عليه وسلم له أمر إن دل على شيء فإنما يدل على حرصه على التنافس في الخير والطموح في الطاعة والأمر لله، بدليل عدم حزنه ولا غضبه بعدما سمع الرد الصريح الواضح المباشر.
ومؤسسة لا يجد موظفوها من يسمعهم وينصت إليهم ويوضح لهم كل لبس؛ مؤسسة في خطر شديد، المشكلات مهما كانت كبيرة إذا تم مكاشفتها وتوضيحها للجميع صغرت، والمشكلات مهما كانت صغيرة وظل الجميع يكتمها بداخله، ولا يجد من يصارحه لابد أن تكبر.
ثم الجزء الثاني من المعادلة: قائد بصير لا يترك المشكلات في عقول موظفيه مكتومة كالديناميت المعرض للانفجار في أية لحظة بسبب عدم قدرته على المواجهة، الأتباع في هذه اللحظة حين تجد المجاملة وعدم المصارحة هي العنوان؛ فإما أن تحبط، وإما أن تقلد، وإما أن تنتقم، وكلها شر على الناس والمؤسسة، والنبي صلى الله عليه وسلم رغم عظمته وهيبته وكثرة مهماته إلا أنه ترك الباب مفتوحًا للجميع للمصارحة والمكاشفة والشفافية مع حفظ جناب النبوة بالتأكيد. الجزء الثالث من المعادلة: وهي القيم الحاكمة أو ما تسمى بالثقافة المؤسسية؛ وهي الأمانة في الحديث، والأمانة في أبسط تعاريفها: هي أن تفعل الصواب حتى لو لم يكن عليك رقيب، فالقيم الحاكمة في المؤسسات تعني عدم طغيان القيم الشخصية على قيم المؤسسة الراسخة، وتعني هدم ضياع القيمة من أجل مجاملة أو موقف.
قائد لا يعرف نقاط القوة ونقاط الضعف عند موظفيه قائد غير موجود:
تأمل في تفصيل السيرة الذاتية لسيدنا أبي ذر من قبل النبي صلى الله عليه وسلم ، رد واضح مبني على دراية واضحة، معرفة القائد الجيدة لموظفيه أمر مهم ليس لتعيين الأقوى فقط ولكن لاستبعاد الأضعف.
النجاح الدعوي لا يعني النجاح الإداري:
والنجاح في مجال لا يعني النجاح في كل مجال، أبو ذر الذي أتى بغفار كلها، من أوائل من أسلم من الصحابة، لا يتولى أي منصب ويصرح له بأنه ضعيف، وكأنها صيحة لاحترام التخصصات مع استمرار تقدير أهل الفضل، وهي رؤية إسلامية فريدة. ثبات المنزلة لا تتحدد ولا تتأثر بالمناصب، والصديق رضي الله عنه جندي في جيش عمرو بن العاص وأسامة بن زيد أكبر مثال لذلك. كان السلف يقولون: من شيوخنا من نرجو دعاءهم ولكن لا نأخذ منهم الحديث، فالأمانة لا تعني أن الكفاءة مباشرة بجانبها، فالحديث الذي بين أيدينا يوضح أن أبا ذر كان أمينًا، ولكنه لم يكن كفئًا أو قويًّا، فالقوي الأمين هو المعيار، وهذا لا ينقص ولكنه التخصص.
اليوم الآخر وأثره في توجيه المؤسسة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة:
وهذا المعيار كافٍ وكفيل لإحداث نهضة إدارية قيادية في مسلم ربط قلبه باليوم الآخر وبالرب الوهاب لا بالمناصب والألقاب، وليت هذه الجملة تنقش في قلوب كل العاملين في كل المؤسسات، اليوم الآخر بَوْصَلَة في توجيه السلوك الوظيفي قيادات ومرؤوسين، خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها، فالله المستعان، أمانة تعيين الموظفين أمر عظيم، وأمانة لمن يعين ولمن يقبل رغم معرفته لضعفه ومن يستمر رغم وجود من هو أحق يقينًا، والموعد القيامة. حديث النبي[ مع سيدنا أبي ذر نموذج معتمد لإدارة الموارد البشرية بكفاءة وحزم ورحمة، حديث يبني مؤسسة أركانها: الأمانة، القوة، الشفافية، المساءلة، الحوار، التخصص، الإيمان باليوم الآخر، سبع كلمات محورية لبناء مؤسسة عصرية.
لاتوجد تعليقات