رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. أحمد خليل خير الله 29 نوفمبر، 2015 0 تعليق

حديث أبي ذر.. رؤية إدارية (1)

أضحى تلمس الرؤى الإدارية من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم  أمرًا مُلحًا لجيل لم يرَ إلا كتب الإدارة الغربية القادمة من بيئة علمانية التوجه بوضوح، ومع النظام العالمي الجديد بسمومه الثلاث: المادية والفردية والاستهلاكية، نحتاج إلى مواجهة صريحة في كل ساحات العلوم وفي كل ساحات التخصص، يتصدى لها رجال عقيدة وهوية قبل أن يكونوا رجال تخصصية واحترافية، والجمع بينهم هو المطلوب؛ رجال الإيمان والعمران وأخلاق القرآن.

معاناة الإداري المسلم

ودعني أعترف أن الإداري المسلم العربي يعاني أيما معاناة في وجود النظم الإدارية التي تخرج من مشكاة هويته وعقيدته، يقف يتيمًا ليس لوجود التراث الإداري المطلوب ولكن لانقطاع السند الإداري بيننا وبين أجدادنا منذ زمن.

     وأزعم أن العلمانية والليبرالية قد قدمت للعالم على فرس إداري مبهر متين، فتقدم فرسها وتأخر غيرها، وكثير من القيم الإسلامية والأفكار التي تمس صميم الهوية تحتاج إلى النظام الإداري الذي يحملها فوق ظهره وينطلق،  وأزعم أن الإدارة برؤية إسلامية مبنية بالأساس على بناء استراتيجي للموارد البشرية، فهي ركن رؤيتنا في الإدارة، بناء الإنسان ثم ينبني عليه بعد ذلك كل شيء وهذا ديننا في كل منطلق الإنسان قبل البنيان والساجد قبل المساجد والقلوب قبل الحروب دائمًا الإنسان أولًا.

مؤسسة الأمة

     والحديث الذي بين أيدينا لابد أن نتأمله في نطاق مؤسسة كبيرة تسمى الأمة، وهو يحمل دروسًا عملية للقيادات الإدارية في كل مؤسسات الأمة والدولة، حتى لا تتحول المجاملات وتأليف القلوب إلى أصل داخل العمل الإداري، فتُخلط الأوراق وتنهار المؤسسات، وفي الوقت نفسه حتى لا يتحول الحزم الإداري إلى سوء أدب وإسقاط لأهل الفضل والسبق، والتوازن عزيز ولكنه ليس بمستحيل، والحديث رواه الإمام مسلم وأحمد عن أبي ذرٍّ]، قال: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَلاَ تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَىَ مَنْكِبِي، ثُمّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ إنّكَ ضَعِيفٌ وَإنّهَا أَمَانَةٌ، وَإنّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إلاّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقّهَا وَأَدّى الّذِي عَلَيْهِ فِيهَا». ومعنى الضعف الوارد في الحديث هو العجز عن القيام بوظائف الولاية الإدارية، قال النووي -رحمه الله-: هذا الحديث أصل عظيم في اجتناب الولايات، لا سيما لمن كان فيه ضعف عن القيام بوظائف تلك الولاية.

 الدروس الإدارية والقيادية من الحديث:

1- الامتيازات لا تكون على حساب المؤسسة أو على حساب النفع العام:

      فضل سيدنا أبي ذر لا ينكره إلا جاحد، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر، ومن سره أن ينظر إلى تواضع عيسى ابن مريم فلينظر إلى أبي ذر. ولكن السؤال المهم: ما علاقة هذا بالعمل الإداري العام؟، وما علاقة هذا بالمسؤوليات الإدارية والقيادية؟، هذا الحديث برؤيته الإدارية يقول لنا: لا لخلط الأوراق، صلاح الرجل وفضله لا يعطيه ما ليس من حقه. يا أبا ذر فضلك على العين والرأس وفي الوقت ذاته أنت ضعيف، نقطة ومن أول السطر.

     الامتيازات لا تكون على حساب سير العمل في المؤسسات، ولو كان الأمر كذلك والمعيار هو الفضل والأمانة فقط بعيدًا عن الكفاءة، لكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه هو القائد في كل سرية تخرج، ولكن الصديق خرج في كل الجيوش وهو جندي، والقائد ربما كان شابا من عمر أحفاده لا أولاده فقط، وكل هذا؛ لأنها أمانة على القائد والأتباع، وهم مسؤولون جميعًا أمام رب السموات، فلا للامتيازات على حساب المؤسسات.

2- لا يدمر الأمان الوظيفي والثقة المتبادلة داخل المؤسسات مثل إسناد الأمر لغير أهله:

     فهذا هو فيروس الدمار داخل المؤسسات حين يغيب معيار الكفاءة عن التعيينات والولايات، وتصدر الواسطة والمجاملات، وفي هذا الأمر نص مرعب مؤلم. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة، قال كيف إضاعتها يا رسول الله؟، قال إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة، وحديث سيدنا أبي ذر حين ينتقل لكل الكوادر، وينقل ويروى من خلال صاحب الموقف في الأساس بمنتهى الشفافية، كم له من أثر في إثراء روح الأمان والثقة في المنهج الإداري المستقبلي لإدارة الموارد البشرية داخل الدولة! وأيضًا على اطمئنان الجميع على كفاءة الاختيارات التي ستؤدي بالتبعية إلى كفاءة الأداء، وبالتالي كفاءة النتائج، حين يطمئن الجميع أن القاعدة الثابتة هي: «لن يوسد الأمر لغير أهله».

3- وظيفة القائد هي الحصول على الأفضل من الموظفين أو الحصول على موظفين أفضل:

     فإخراج أفضل ما عند الموظفين من أداء وإن لم يكن فالإتيان بالأفضل للقيام بهذه المهام، مهمة القائد الأصيلة هي اختيار الرجال والحفاظ عليهم وتنمية قدراتهم وهي أمانة؛ فالقائد المجامل لموظف لابد أن يتحامل على آخر، والقائد الذي يخجل من موظف لابد أن يَتْبَعَ هذا الخجل ظلم لآخر أحق، وهذا المبدأ لا يتحقق إلا بتعيين الأنسب الأفضل في مكانه ووظيفته، فإدارة الموارد البشرية مهمة أصيلة للقائد؛ تبدأ برفض الضعيف من الأساس.

 4- كل موظف ضعيف مستمر في منصبه داخل المؤسسة يؤجل دخول موظف قوي موجود خارج المؤسسة:

فمجاملة الضعيف الداخلي على حساب القوي الخارجي مخالف لمبدأ الأمانة في إدارة الموارد البشرية.

5 - عدم تعيين موظف لا يعني إسقاطه أو استبعاده:

      ومن جهة الموظف عدم قبوله في وظيفة لا يعني نهاية علاقته بالمؤسسة، كثير من الأحاديث التي رواها سيدنا أبو ذر تظهر مدى الود والعلاقة الخاصة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم  ولطبيعة المقال الإدارية ليس هذا هو المجال لسردها ولكن منها على سبيل المثال لا الحصر: عن أبي ذر جندب بن جنادة: أوصاني خليلي بسبعٍ: بحُبِّ المساكينِ، وأن أدنوَ منهم، وأن أنظرَ إلى من هو أسفلَ مني، ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأن أَصِلَ رَحِمي وإن جفاني، وأن أُكثِرَ من قولِ: «لا حولَ ولا قُوَّةَ إلا بالله»، وأن أتكلَّمَ بِمُرِّ الحقِّ، وأن لا تأخذَني بالله لومةُ لائمٍ، وأن لاأسألَ الناسَ شيئًا. (صحيح الترغيب) فتأمل إلى كلمة خليلي.

     بعض الناس يتعامل مع كل قرار إداري بتحويل الأمر إلى خلاف شخصي مباشرة، وشخصنة القرارات والعلاقات طريق سريع لتدمير المؤسسات، النبي صلى الله عليه وسلم  خليل أبي ذر ورغم ذلك صارحه ولم يفارقه، وأبو ذر حبيب النبي صلى الله عليه وسلم  تقبل منه ولم يفارقه والأمور تسير، والعمل يستمر وسيستثمر الكادر في أمر آخر غير الذي تم رفضه فيه، ولكن الوضوح هو الأصل. واجهوا الناس ولا تتركوهم، واجهوا الناس ولكن لا تجرحوهم؛ فالقائد صاحب مشرط طبيب وليس سكين جزار، والقائد لابد لقراراته أن تغضب أحد الأطراف، ولكن قرار يغضب لا حرج، ولكن أسلوب يقتل ويدمر هذا هو عين الحرج، فأسلوب القرار وطريقته هي الأهم... تأمل.

     «يا أبا ذر إنك امرؤ ضعيف لا تولين على اثنين ولا تحكمن في مال يتيم»، ولكن بلطف ورفق ومودة وضرب على المنكب، وكأن الرسالة نعم لن تحكم ولكن لن تستبعد، وستظل قدوة وعلماً من أعلام أمتنا إلى يوم القيامة. هذا الحديث عمدة في التوازن بين فضل القدوات المحفوظ، وهذا لا يعني أن منصبهم الإداري ثابت محجوز، وللحديث بقية.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك