حتى لا تشوه المفاهيم
إن المتأمل في أحوال الأمَّة الإسلاميَّة الآن يجد تداعيا عجيبًا على المنهج السلفي وأتباعه في كل مكان، من أصحاب الأجندات الفكرية المختلفة التي تستهدف إبعاد الناس عن هذا المنهج الإصلاحي النقي، ووضع صورة ذهنية سيئة عنه عند الأجيال الحالية، والحرص على تشويهه عند الأجيال الناشئة بوصفه بأوصاف، منفرة كالتعصب والتحزب والجمود والتخلف والرجعية، وإهمال العقل والحط من قيمته مع الإغراق في المثالية والبعد عن الواقعية، واتهامه بالتأصيل للجماعات الصدامية التكفيرية وغيرها من التهم المعلبة الجاهزة التي يستخدمونها لضمان عدم انتشار هذا المنهج المبارك والعمل على اضمحلاله مستقبلا حتى لا يزاحمها على عقول الناس ونفوسهم مستغلين في ذلك جهل الكثير من الأجيال الحالية والناشئة بمعالم هذا المنهج السلفي الإصلاحي المبارك وقواعده وأصوله ونسبة نشأته.
معالم هذا المنهج وأصوله
لذلك فإن الحاجة ملحة لبيان معالم هذا المنهج وقواعده وأصوله للأسباب الآتية:
- بيان الصورة الحقيقية لهذا المنهج الفكري وهذه الدعوة الإصلاحية وإزاحة هذا الضباب وهذه الشبهات التي يطرحها المتحاملون على السلفية والسلفيين حتى صار هناك ما يسمى - ولا سيما في هذه الأوقات- «سلفـّوبيا».
- الناس اليوم أحوج ما يكونون إلى التمسك بالمنهج السلفي، والتزام هدي السلف في العقيدة والعبادات والعادات والأخلاق والسلوكيات، وبالعلم النافع والعمل الصالح، والتعرف على موقف المنهج السلفي من القضايا التي تقوم عليها حياة الناس المعاصرة حتى تعود الأمة إلى علوها وقيادتها للبشرية.
- لأهمية رسم حدود وإظهار معالم هذا المنهج القويم -ولاسيما مع ما نراه من سهولة ادعاء الكثير الانتساب إليه وهم أبعد الناس عنه- وذلك حتى يلزم الرجال به ولا يلزم المنهج بتصرفات بعض الرجال غير المنضبطة، فلا تختلط الأوراق والمفاهيم وتكثر الدعاوى والادعاءات بلا بينات ولا براهين.
أولا مفهوم المنهج السلفي
مصطلح المنهج السلفي ينقسم إلى حدين: الأول: وهو المنهج، والثاني: السلفي وهو نسبة إلى السلف.
مفهوم المنهج
فالمنهج لغة: هو الطريق أو الطريقة، واصطلاحا، هو الطريق الواضح الذي يُتبع للوصول إلى غاية محدودة، أو هو مجموعة القواعد والضوابط التي تمثل طريقة معينة للوصول للغاية المرجوة.
مفهوم السلف
لغة: يطلق على كل ما مضى وتقدم، وسلف الرجل: أباؤه المتقدمون وقرابته الذين فوقه في السن والفضل، كما قال -تعالى-: {فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:275)، واصطلاحًا، هم: الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه -رضوان الله عليهم- والتابعون من بعدهم ومن تبعهم بإحسان ملتزما بما كانوا عليه من الهدى والإيمان والدين الكامل.
مفهوم السلفي
وعلى هذا فالسلفي، هو من التزم بما كان عليه الصحابة ومن تبعهم بإحسان اعتقادا وفهماً للدين وعملاً به ودعوةً إليه، وليس بسلفي من خالف هديهم وإن عاش بين أظهر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين.
السلفية منهج
والسلفية ليست حكرًا على فئة من الناس دون غيرهم؛ لأنها هي الإسلام نفسه كتابًا وسنةً بفهم القرون الخيرية من الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم في كل زمان ومكان، وهى كذلك ليست فترة زمنية محدودة ولا مرحلة تاريخية منتهية ولا هي مرادفة لمصطلح الأصولية fundamentalism الذي يروج له في الغرب مرادفا للوحشية والجمود والانغلاق أمام تيار التجديد عندهم في القرون الوسطى، فهذا لا ينطبق على السلفية لا من قريب ولا من بعيد.
لماذا التمسك بفهم الصحابة والسلف؟
وهنا يأتي دائما السؤال المكرر من المناوئين: لماذا التمسك بفهم الصحابة أو السلف كما تزعمون؟ أليس الصحابة رجالا لهم عقول كعقولنا، بل قد جاء الكثير من بعدهم يوصفون بالذكاء ورجاحة العقل في التاريخ الإسلامي، فلماذا التمسك بفهم الصحابة -رضوان الله عليهم- دون غيرهم؟
والإجابة عن ذلك مهمة ويسيرة بإذن الله على من تأمل وصدق في بحثه عن الحق وهي من وجوه عدة:
الصحابة أعلم الأمة بكتاب الله -تعالى
الصحابة -رضوان الله عليهم- هم أعلم الأمة بكتاب الله -تعالى- ومراد الله -تعالى- في كتابه؛ فعليهم نزل القرآن غضًا طريًا، يوضح لهم الصواب من أفعالهم في أثناء وقوعها، ويعالج مشكلاتهم الواقعة في حياتهم، وهم من استمعوا إلى بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أشكل عليهم فهمه من مراد الله -تعالى- في كتابه، كما أنهم هم أعلم الأمة بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فهم حفظة أقواله ومشاهدو التطبيق العملي للنبي - صلى الله عليه وسلم - في أعماله وتوجيهاته التي أمر بها - صلى الله عليه وسلم .
هم الفئة المباركة
الصحابة هم هذه الفئة المباركة الوحيدة التي زكاها الله -عز وجل- وزكى إيمانها وفهمها، وأمر باتباع طريقتها لتحقيق الهداية والفلاح، قال -تعالى-: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (الأنفال 74)، وقال -تعالى- مخاطبا الصحابة -رضوان الله عليهم-: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} (البقرة:137).
زكاهم النبي - صلى الله عليه وسلم
الصحابة هم من زكاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمرنا باتباع طريقتهم عند الاختلاف في فهم الأمور، قال - صلى الله عليه وسلم -: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي» (رواه الشيخان)، وقال أيضًا - صلى الله عليه وسلم -: «.. فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المهديين، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وإياكم ومحدثات الأمور» (حديث حسن صحيح)، فهذا توجيه صريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - للأمة جمعاء أن تلتزم فهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عند وقوع الاختلاف، بل جاء الأمر بالتمسك الشديد بذلك مشبهًا الأمر في شدة التمسك به بالعض على النواجذ.
هم صمام أمان هذه الأمة
إن هؤلاء الصحب الكرام هم صمام أمان هذه الأمة، فكان انقضاء جيلهم بداية لظهور البدع والفتن، كما أن ترك طريقة فهمهم للكتاب والسنة سبب في وقوع الفتن والمحن، والدليل على ذلك هو قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «....... النجوم أمنة السماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون» رواه مسلم.
أشد الناس تمسكًا بهدي النبي - صلى الله عليه وسلم
إنهم -رضوان الله عليهم- أشد الناس تمسكًا بما أخذوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من كتاب وسنه ومتابعة له، لا يفرقون في العمل بين صغير وكبير أو بين واجب ومستحب.
كانوا أهل اجتهاد ونظر
إنهم -رضوان الله عليهم- كانوا أهل اجتهاد ونظر يملكون أدوات الاجتهاد (العلم التفصيلي بالكتاب والسنة - ليس مجرد معرفة أسباب النزول بل معايشتها بأنفسهم - ورجاحة العقل والفراسة والفطنة والعلم باللغة والقدرة على الاستنباط)، فتوفرت عندهم، واكتملت لديهم بما لا يكون عند غيرهم.
أعلم الناس باللغة الفصيحة
إنهم أعلم الناس باللغة الفصيحة، يعلمون مشهورها وغريبها وأساليبها البلاغية، ولم يعرفوا لحن اللسان، ولم تلحقهم شوائب العجم، فهم أفهم الناس بالمعنى المراد من اللفظ.
إجماع الأمة على إمامتهم
إجماع الأمة جيلاً بعد جيل على جلالتهم وإمامتهم والشهادة لهم بالعدالة والصلاح، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: «إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد خير قلوب العباد؛ فاصطفاه لنفسه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد؛ فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسنا فهو حسن وما رأوه سيئا فهو عند الله سيء»، وعن ابن عمر -رضي الله عنهما-: «كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير هذه الأمة قلوبًا، وأعمقهم علمًا، وأقلهم تكلفًا، اختارهم الله -عز وجل- لصحبة نبيه ونقل دينه».
أعظم من بذل الغالي والنفيس
إنهم -رضوان الله عليهم- أعظم من بذل الغالي والنفيس، بل وضحّوا اختيارا بأرواحهم وأموالهم في سبيل نشر هذا الدين وإيصاله للعالمين، فهم أحرص الناس على إبلاغه للخلق طبقًا لمراد الله على ما فهموه من رسول الله بلا تغيير ولا تبديل.
لاتوجد تعليقات