حتى لا تشوه المسميات
دائما ما يُطرح سؤال من رموز الإعلام كثيرًا ومن عموم المسلمين بل وشبابهم كذلك من باب الفهم أحيانا أو من باب الاستنكار أحيانا، أو من باب التأليب أحيانًا، لماذا التسمية بالسلفية وهو اسم لم يرد في الكتاب والسنة؟، ولماذا نبتدع أسماء جديدة ونتعصب لها ونتحزب عليها؟ والله -عز وجل- يقول: {هو سماكم المسلمين من قبل}؟
وهذا السؤال أيضا يطرح بكثرة من أصحاب أجندات فكرية مناوئة للمنهج السلفي في محاولة منهم لطمس هذا المسمى عند عموم المسلمين، والإجابة عن ذلك التساؤل يسيرة بإذن الله، وهي من وجوه عدة:
أولا: إطلاق الأسماء لا ضرر منه
إطلاق الأسماء ابتداءً على أي حقيقة لا ضرر منه مطلقا، سواء في الشرعيات أم المباحات، والاسم ما دام أنه لا يشتمل على باطل فليس ممنوعا شرعا؛ فقد سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض المسلمين بالمهاجرين؛ من أجل الهجرة، وسمى آخرين بالأنصار؛ من أجل النصرة، وسمي من جاء بعدهم بالتابعين؛ لاتباعهم من سبقهم من المهاجرين والأنصار، بل خص النبي بعضهم بخطاب لهم وهو موجه لكل المسلمين فقال: «يا معشر المهاجرين......»، فـما الضير إذا في تسمي من تلمس هدي السلف من الصحابة والتابعين بالسلفي ؟
ثانيا: التسمية ليس معناها التعصب للاسم
بل كل مسلم يشهد الشهادتين ويعمل بحسب استطاعته بمقتضاهما يجب أن يُحب ويُعان على طاعته، ويوالى على حبه لله ورسوله، والسلفي يجب ألا يُنصر إن كان مبطلاً ولو كان عدوه كافرًا، ولا يُوَالى السلفي في ظلمه لغيره لمجرد أنه سلفي، وهذا هو معتقد السلفي المنتسب حقا لهذا المسمى؛ فالمولاة تكون لكل مسلم بحسب حبه وتمسكه بدينه واعتقاده وإيمانه طبقا لقربه وبعده مما كان عليه النبي -[- وأصحابه علما وعملا وسلوكا، وليس الأمر على مجرد الاسم الذى قد يدعيه أي أحد.
ثالثا: التسمية ضرورية لتمييز المتبعين لمنهج السلف
-هذه التسمية ضرورية -وما زالت- لتمييز المتبعين لمنهج السلف (الصحابة والتابعين) عن سائر الطوائف المخالفة لهم باسم يشير إليهم من بين من يخالفهم، وهي نسبة قبل أن تكون اسمًا علمًا؛ حيث مر هذا المصطلح بتطورات تاريخية حتى ظهر، فقد كان أول ظهور لمصطلح السلفية في أيام الدولة العباسية بعد التأثر بحركة الترجمة للفلسفة اليونانية وعلومها في مقابلة مصطلح (الخلف)، طبقا للتطورات التاريخية الآتية التي يجب معرفتها:
وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم
- فعند وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان جيل الصحابة -رضوان الله عليهم- محافظين على الدين نقيا كما نزل، فتميز المسلمون في عهد الصحابة -رضي الله عنهم- في فترة ما بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنهم ظلوا على عهدهم محافظين، وبعرى الجماعة والإسلام مستمسكين، ذلك منذ وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي ظل خلافة الشيخين، فلم نسمع أصواتا معارضة ذات بال، فالإجماع كان منعقدا وتاما.
خلافة عثمان - رضي الله عنه
- ثم انفرط عقد الجمع قليلاً واهتز في السنوات الأخيرة من خلافة عثمان - رضي الله عنه -؛ حيث شهدت هذه الفترة ظهور بعض الآراء التي خالفت جماعة الصحابة في الفهم والاعتقاد، ولكنهم كانوا قلة لا يُؤبه لهم؛ إذ إن جمهور المسلمين حينئذ (أهل السنة والجماعة)، كانوا الأكثر عددا، وكانوا مجتمعين على سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يحتاجوا إلي لقب أو اسم في ذلك الوقت؛ لأنهم الأصل؛ لذا لما كان الإمام مالك -رحمه الله تعالى- يُسئل عن تعريف أهل السنة والجماعة، فكان يجيب بقوله: «الذين ليس لهم لقب يعرفون به»
عصر التابعين
- ثم لما كان عصر التابعين وتابعي التابعين، أخذ العلماء بتدوين السُنة من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وآثار الصحابة، وصار الآخذون بها والمقتدون بهديهم يُطلق عليهم أهل «الحديث والأثر»، وقد امتد هذا اللقب من أواخر عصر الصحابة إلى عصر بنى أمية وفترة من حكم العباسيين، وكان ذلك اللقب في مقابلة من انحرف عن مسار السلف الصالح من أهل البدع والأهواء.
رأس المئتين من الهجرة
- ثم لما كان الأمر على رأس المئتين من الهجرة، وازداد نفوذ المعتزلة الآخذين بعلم الكلام والفلسفة، صار المتمسك بطريقة أهل الحديث والأثر يطلق عليه «السني» في مقابلة المتبع لأصحاب علم الكلام «المعتزلي»
عهد الخليفة العباسي المأمون
- ثم استفحل أمر المعتزلة ولا سيما في عهد الخليفة العباسي المأمون، وصار علماء أهل السنة يُمتحَنون في عقيدتهم، وكانت فتنة الإمام أحمد -رحمه الله- التي تصدى فيها الإمام للقول بخلق القرآن، متمسكا بمنهج الاستدلال في إثبات أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وظهر ذلك في تمسكه بقوله لمناظريه: «أعطوني شيئا من كتاب الله وسنة رسوله»، وقد ثبته الله -عز وجل- على ذلك حتى أُزيحت الغمة في عهد الخليفة المتوكل، وقد صار لقب «حنبلي» يطلق في مقابلة «معتزلي»
موت الإمام أحمد
- ثم بعد موت الإمام أحمد ظلت المعركة بين أهل الحديث الذين تمسكوا بالنقل وفهم الصحابة، وبين المعتزلة الذين اعتمدوا على العقل واستبعدوا النقل فانحرفوا عن الصراط المستقيم والفهم القويم وانحرفوا عن عقيدة المسلمين النقية الصافية مستمرة، حتى ظهر بعد ذلك (أبو الحسن الأشعري) -رحمه الله- متصديا للمعتزلة مستخدما في ذلك المنهج الكلامي نفسه في محاولة للدفاع عن عقائد أهل السنة والجماعة، وتابعه على هذه الطريقة آخرون، فنشا بعد ذلك المذهب الأشعري، وقد كان للمنهج الكلامي أثره في وجود انحراف عن طريقة الصحابة والتابعين ( في منهج الاستدلال وآليات الفهم وما ترتب على ذلك مخالفات في بعض مسائل العقيدة...الخ )، وقد حاولوا أن يسوغوا ذلك الانحراف بأن أطلقوا على أنفسهم لقب (الخلف)، وقالوا: «طريقة السلف أسلم أحوط، وطريقة الخلف أعلم وأحكم»، وقالوا نحن الخلف ننصر عقائد السلف بمنهج المتكلمين.
موقف الحنابلة
- وقد انبرى لهم (الحنابلة) الذين انتسبوا إلى طريقة الإمام أحمد في منهجية الاستدلال، والذين هم (أهل السنة والجماعة)، أو (أهل الحديث)، أو (أهل الأثر) أيا كان المسمى، متمسكين بمنهج الاستدلال بالكتاب والسنة في إثبات العقائد، رافضين لاستخدام منهج المتكلمين الذي استخدمه الأشاعرة في الدفاع عن عقيدة أهل السنة والجماعة؛ لأن هذا في الحقيقة إثبات لمنهج المعتزلة ذاته في استخدام علم الكلام في العقائد، فضلا عما حدث أيضا من بعض الانحرافات العقدية عند الأشاعرة أنفسهم نتيجة لاستخدامهم لمنهج المتكلمين في إثبات العقائد، مثل ما حدث من مخالفات في أمور منها:
عدم إثباتهم لكثير من الصفات الثابتة للرب -سبحانه وتعالى- والعمل على تأويلها أو إرجاعها إلى الصفات السبعة الأزلية المتفقين على إثباتها، ونظرية الكسب في مسائل القدر، وتبني مذهب الإرجاء في مسائل الإيمان، والقول بأن القران كلام الله نفسي. إلخ، فـصار اسم (الخلف) بعد ذلك يقابل اسم (السلف)، وصار من سار على عقيدة السلف، متمسكا بمنهج استدلالهم يسمى (سلفيا).
تقسيم أملاه واقع الأمة
من هنا فإن هذا التقسيم وهذا المصطلح أملاه واقع الأمة من قرون عدة، وهو في الحقيقة من صنع الخلف -قبل أن يكون من صنع السلفيين أنفسهم- لما قالوا: «طريقة الخلف أحكم وأعلم، وطريقة السلف أسلم وأحوط»، فكان قائل أهل السلف يرد عليهم ويقول: «طريقة السلف أعلم وأحكم وأسلم»، ويقول أيضا: كل الخير في اتباع من سلف، وكل الشر في اتباع من خلف.
حقائق لابد من تأكيدها
بعد هذا السرد التاريخي لنشأة مصطلح السلفية فهناك حقائق لابد من تأكيدها:
- السلفية ليست مذهبًا كتلك المذاهب الفقهية كما يحاول بعضهم وسّمها بذلك وحصرها في مذهب الحنابلة -بحجة تسمية المنتسب إليها في فترة من فترات التاريخ بالحنبلي-، وذلك حتى يسهل عليه ترويج مخالفتها ونقضها بحجة أنها مذهب من ضمن المذاهب.
- هي أيضا ليست بديلا عن اسم (أهل السنة والجماعة)، بل هي اسم مرادف له مميز لتلك لفرقة الناجية التي أخبر عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها على ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من الفهم للكتاب والسنة والاستدلال بهما والعمل بمقتضاهما.
- ما تعددت الأسماء من (أهل السنة والجماعة) او (أهل الحديث) أو (أهل الأثر) أو (السني) أو (الحنبلي) إلى (السلفي)، إلا لغلبة كل اسم منها على هذه الطائفة المتمسكة بفهم الصحابة في فترة من الفترات بحسب ظروف هذه الفترة وما بينها من تطورات فكرية شهدها المسلمون.
- لقب السلفي ليس حكرا على أحد دون الآخر، بل هو لقب لكل مسلم التزم الإسلام كتابا وسنة بفهم القرون الخيرية الأولى من الصحابة والتابعين، وسار على نهجهم علما وعملا ودعوة في كل زمان ومكان.
لاتوجد تعليقات