رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ د.إبراهيم بن محمد الحقيل 23 يوليو، 2017 0 تعليق

حتى تثبت القلوب ولا تنتكس (4)صد الطاقات والمواهب الصاعدة وإهمالها وعدم العناية بها


تحدثنا في المقالات السابقة عن أهم الأسباب التي تؤدي إلى كثرة الانتكاس في الناس، وتقلب قلوبهم، وتغير مناهجهم، وانتقالهم من فكر إلى فكر، ومن منهج إلى آخر، بل من الاستسلام لله -تعالى- ولشريعته إلى التمرد عليه وعلى شريعته، وذكرنا أن من هذه الأسباب ما يرجع إلى الشخص نفسه ومنها وما يرجع إلى المجتمع، ومن الأسباب التي تتعلق بالمجتمع ونقصد به (مجتمع العلماء والدعاة) ما يلي:

صد الطاقات الواعدة والمواهب الصاعدة

- السبب الأول للانتكاس والانقلاب على المنهج هو صد الطاقات الواعدة والمواهب الصاعدة، وإهمالها وعدم العناية بها، مع أنها ترى أنها أميز من غيرها من الأقران، والواجب على التابع ألا يؤثر ذلك فيه لكن بعض الأتباع ضعيف، فعند إهمال المتبوع له -عالم أو داعية أو مرب- يفارق التابع مجلس متبوعه ودرسه، وربما انقلب عليهم بالحط والثلب، وحينها يجد من يتلقفه من أهل الشر، فيرفعه ويعتني به ويستخدمه معول هدم للحق.

     وحدثني بعض أهل العلم والأدب عمن عاصر عبد الله القصيمي -العالم السلفي الذي انقلب إلى ملحد- أن من أسباب صدوده عن أهل العلم، وثورته على الدين وأهله أنه لما قدم من مصر كان يعتمر العقال، ويعتني بمظهره اعتناء زاد عن المألوف، فكأن بعض أهل العلم استوحشوا ذلك منه فجفوه، وكان قد دُعي إلى وليمة لبعض أهل العلم، فلم يأبهوا به ولم يقدموه، فحمل ذلك في نفسه وفارقهم.

     وفي مقابل ذلك نرى جلدا من أتباع الباطل في تكثير أتباعهم، والدفاع عنهم، واستماتتهم في نشر باطلهم، وكان لي قريب في المرحلة المتوسطة وكان كتب قصيدة فيها شيء من تمرد ونشرها في بعض الصحف، فاطلع عليها سفير سبعيني، فأرسل له رسالة خاصة يثني عليه بها.

 ورأيت شاباً انتحل مذهب الحداثيين في التمرد، فجاوز المعهود في قوله، فأُخذ به، فوقف معه الحداثيون وسائر المنحرفين وقوفاً عجيباً، ودافعوا عنه باستماتة حتى ألغوا ما يستحق من العقاب.

 وفي مقابل ذلك فإن كثيراً ممن ابتلوا وهم على الحق لم يلتفت لهم أحد، فربما ضعف بعضهم بسبب ذلك، وانقلب على منهجه السابق.

     وتفسير خذلان أهل الحق لأتباعهم، ونصرة أهل الباطل لأفراخهم أن أهل الباطل في مجتمعات المسلمين هم الأقلية، وأهل الحق هم الأكثرية، ومن السنن البشرية أن الأقلية دائمة التكتل، وتسعى في تكثير الأتباع، وتكون معتادة على أجواء التوتر، وتتقن التعامل مع الأزمات، بينما الأكثرية تكون في حالة أمن واسترخاء، ولم تعتد على أجواء التوتر، ولا تحس بفقد بعض أفرادها لكثرتهم، كما أن الحكومات قد تعودت من الأقليات على أنواع من التمرد فلا تستنكره منهم مهما كان عظيماً، بخلاف الأكثرية التي يستكثر منها ما هو صغير.

 الانفصام بين العلم والعمل

- السبب الثاني، الانفصام بين العلم والعمل، فأحياناً يقع الطالب على مخالفة وقع فيها شيخه - وهو يراه مثله الأعلى- فيسقط من عينه، ويجني على نفسه بإسقاط المنهج الذي ينتهجه شيخه، ويبحث له عن منهج آخر، وقد حُدثت عن بعض أهل العلم ممن هام في بعض المبتدعة؛ فتعصب له، وبداية ذلك: رحلته لشيخ يأخذ عنه؛ فرأى في بيته ما يكره أن يراه من شيخه، فنفر منه وتحول إلى شيخ مبتدع كان قد سمع به، فرآه على حال من الزهد لم يره في شيخه الأول، فكان ذلك فتنة له؛ فلزمه وهام به، وركب شيئاً من بدعته. ولو أنه أحسن لسأل شيخه عما كره فلعله معذور فيه، أو متأول، أو غير ذلك، ولو وفق للهدى لفرق بين علم الرجل وسمته؛ فليس كل زاهد في الدنيا يصيب السنة، وليس كل مخطئ في سلوكه يهجر لخطئه ولو كان من علماء السنة، والحق يعرف بالأدلة من الشريعة، ولا يعرف الحق بالرجال، كما أن الباطل يعرف بطلانه بالأدلة، ولا يحيله زهد صاحبه إلى حق.

ضعف الفقه في علاج خطأ من أخطأ

- السبب الثالث، ضعف الفقه في علاج خطأ من أخطأ من أهل العلم والصلاح، أو فعل خلاف ما هو أولى أو ما لا يليق بأمثاله، أو أتى بقول شاذ؛ فيكون حقه التعنيف والتقريع والسخرية في كثير من الأحيان؛ مما يجعله يصر ويكابر ويدافع عن موقفه ولو كان خطأ، وهنا يتسلل الشيطان إلى قلبه، ويركبه أهل السوء والنفاق؛ لتنفيره من أهل الاستقامة والصلاح، أو يحرج فيجتنبهم فيجد في الطرف الآخر من يحسن استقباله وتسليته.

     وأعرف واحداً من النابهين في العلم خالف في مسائل ولم يكن من أهل البلد الذي عاش طيلة عمره فيه، فكأن بعض الحاسدين له اقتنصوا مخالفته فشنعوا عليه وضايقوه حتى فارقهم ورحل عن بلادهم، فتلقفه آخرون، وأحسنوا احتواءه، ووضعوه في مقامه اللائق به علمياً، وسخروا قوته العلمية في تشريع كثير من الرخص على وفق منهجهم، ونقد المنهج السابق بحجة التشدد، ولا شك في أنه يلام في ذلك، لكن النفس البشرية تضعف أمام المضايقات، وتستعبد لإحسان الآخرين ولو كانوا مخالفين في المنهج الصحيح.

     ولو تأملنا السنة النبوية لوجدناها مليئة بحفظ مكانة الشخص ولو أخطأ، وعدم الإسراف في الإنكار عليه بتنقيصه والإزراء به، وفرق بين التعرض لشخصه بالهمز واللمز والتعرض لقوله بالتخطئة والنقد، وكثير من الناقدين لا يفرقون بينهما، والنبي صلى الله عليه وسلم ؛ لما أقام الحد على الشارب فسبه بعض القوم قال صلى الله عليه وسلم رداً عليهم: «لَا تَقُولُوا هَكَذَا، لَا تُعِينُوا عليه الشَّيْطَانَ، وفي رواية: لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ على أَخِيكُمْ».

وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم  إنزال الناس منازلهم، ووضعهم في المقام اللائق بهم، وقال في سعد بن معاذ رضي الله عنه : قوموا إلى سيدكم، وأنزل سيد قريش أبا سفيان منزلته، فقال في الفتح: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فالنابهون والمميزون وذوو الشأن ليسوا كغيرهم، وينبغي إعطاؤهم حقهم من التوقير والاحترام والاهتمام؛ لأن في تأليفهم خدمة للدعوة وإعزازاً للدين بهم.

 ومنهج النبي صلى الله عليه وسلم  في هذا الباب أنه كان يعامل كل أحد بحسب إيمانه وقوته في الحق:

 فهجر الثلاثة المخلفين؛ لما ظهر من صدقهم في عدم اختلاق الأعذار؛ وذلك لتربيتهم، وظهر صدق توبة كعب رضي الله عنه في رفضه لعرض ملك غسان؛ فلا تكون هذه المعاملة قاعدة ثابتة، ولا تصلح مع كل أحد.

     ولم يول خالد بن الوليد رضي الله عنه في أول إسلامه مع شهرته في القيادة، وجعله جنديا تحت قادة هو أولى بالقيادة منهم من الجهة العسكرية، وما أرى ذلك -والله أعلم- إلا تربية له؛ ليكون إسلامه لله -تعالى- ولا حظ فيه لشيء من الدنيا والهوى… فلما صح ذلك من خالد رضي الله عنه ولم يتضعضع أنزله النبي صلى الله عليه وسلم  منزلته اللائقة به وولاه وقال: سيف من سيوف الله، ولما أخطأ تبرأ من خطئه وقال: «اللهم أبرأ إليك مما فعل خالد» لكنه لم يهدره ولم يعزله. وهكذا فعل الصديق رضي الله عنه؛ فلما تولى عمر خشي أن يفتن الناس به فعزله ولم يهدر منزلته، بل أمر أبا عبيدة أن يستشيره في الحرب.

وأعطى المؤلفة قلوبهم وترك الأنصار، والأنصار أسلموا ولم يريدوا من الدنيا شيئا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لما أسلموا ما كان عنده شيء، بل خاطروا بدنياهم لأجله، وهذا من أبين الأدلة على تمكن الإيمان من قلوبهم، فعاملهم بحسب إيمانهم.

     والمخطئون في معاملة من أخطأ من النابهين على طرفين: فطرف يداهنهم في دين الله -تعالى- لإرضائهم، ويوافقهم في بعض باطلهم بزعم أن يقبلوا الحق الذي عنده، وهي طريقة من يظنون أنهم من أهل التيسير، وهم في الحقيقة أهل التمييع والمداهنة في دين الله -تعالى- مع الكفار والمنافقين والمنحرفين، ولما ساومت قريش رسول الله على دينه أنزل الله -تعالى- سورة الكافرون؛ ليعلم الناس أنه لا مساومة على دين الله -تعالى- وحسم النبي صلى الله عليه وسلم  هذا الأمر فقال: «فَمَاذَا تَظُنُّ قُرَيْشٌ، والله أني لاَ أَزَالُ أُجَاهِدُهُمْ على الذي بعثني الله له حتى يُظْهِرَهُ الله له أو تَنْفَرِدَ هذه السَّالِفَةُ» يعني: رقبته الشريفة.

وطرف آخر يجفونهم ولا يأبه بهم، وإذا أخطؤوا عنف عليهم وتجاوز في انتقاده لهم، فتخسرهم الأمة؛ بسبب هذه المواقف التي يمكن اجتنابها، وينتج عن خروجهم من صف الدعوة مفاسد أهمها:

1- ربما خسارتهم لدينهم، كمن ألحدوا أو انتهجوا مناهج الشك، أو صححوا أديان الكفار، نسأل الله -تعالى- العافية.

2- خسارة الأمة لطاقات نابهة.

3- استخدام أعداء الإسلام لهم، وتجييشهم ضد الدعوة والدعاة من أوجه:

أ- الاستفادة مما لديهم من معلومات شرعية للطعن في الشريعة أو للاستدلال على ما يريدون من انحراف الناس، وقد رأينا بعد موجات الارتداد والانقلاب أن كثيرا من وسائل الإعلام التي تدعو الناس إلى الفساد والثورة على الدين صارت تعرض من النصوص والأقوال ما يؤيد شبهاتها، وكل هذا إنما يؤخذ من هؤلاء المنقلبين على أعقابهم سواء كان مباشرة وبأقلامهم أم بواسطة.

ب- محاولة إقناع المترددين بهؤلاء الذين سبقوهم إلى الانحراف، ولاسيما أنهم يصفونهم بالجراءة والشجاعة والتحرر من التقليد، ويلقون في أنفسهم بأنهم رواد وطلائع للتغيير وللنهضة المنتظرة.

ت- الصد عن دين الله -تعالى- كأنهم يقولون لمن يريد الاستقامة على دين الله -تعالى- والانتظام في سلك الصالحين: هؤلاء جربوا الطريق قبلك.

ث- كشف عورات المسلمين، بذكر ما رأوا على الصالحين والدعاة والعلماء من هفوات وزلات لا يسلم منها بشر، وتضخيمها والكذب عليها. ومن ذلك اتهام الجمعيات الخيرية أو حلقات التحفيظ أو المراكز الصيفية ونحوها.

ج- بث الشبهات في دين الله -تعالى-فكثير منهم حضروا مجالس العلماء والدعاة، ويعرض فيها بعض المسائل الخلافية والمشكلة، أو التي يثيرها الخصوم فيتلقفها فإذا انقلب صار يشغب بها على العلم والعلماء والدعوة والدعاة، وقد أخذها منهم. 

اختيار أضعف ما عند الخصوم

- السبب الرابع: اختيار أضعف ما عند الخصوم من أصحاب الفرق الضالة أو التيارات الفكرية المنحرفة والرد عليه، والإلقاء في روع الأتباع أن الشبهة انتهت وأن حجة الخصم سخيفة أو ضعيفة، وهي في واقع الأمر ليست كذلك؛ فمع الانفتاح الإعلامي والثقافي صار الشاب يطلع على ما عند الآخرين، وإذا هو ليس ضعيفا كما صوره شيخه، بل فيه قوة، ويحتاج في رده إلى حجة؛ فينحرف بسبب ضعف جواب شيخه، أو يجد شبهات أخرى لم يتعرض لها شيخه.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك