رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ د.إبراهيم بن محمد الحقيل 24 يونيو، 2017 0 تعليق

حتى تثبت القلوب ولا تنتكس (3) من أسباب الانتكاس: إهمال تزكية النفس وتأثر القلب بالشبهات والشهوات

  

استكمالا لما بدأنا الحديث عنه عن أهم الأسباب التي تؤدي إلى كثرة الانتكاس في الناس، وتقلب قلوبهم، وتغير مناهجهم، وانتقالهم من فكر إلى فكر، ومن منهج إلى آخر، بل من الاستسلام لله -تعالى- ولشريعته إلى التمرد عليه وعلى شريعته، وذكرنا من هذه الأسباب مشارطة الله -تعالى-، والجهل بسننه  في خلقه، واليوم نستكمل هذه الأسباب.

إهمال تزكية النفس بالأعمال الصالحة

      السبب الثالث هو عدم العناية بعلم الباطن والسلوك، وإهمال تزكية النفس بالأعمال الصالحة، وربما كان للمنقلب معاص في السر أهملها؛ فكان ضعيفاً في مواجهة المنكر وأهله، خائراً في مقابلة الابتلاء بالصبر والثبات، فانهار في الابتلاء وانقلب على منهجه، وقل أن نجد عالماً من علماء السلف إلا وله كتابة في الزهد أو الرقاق أو تزكية النفس، سواء كانت مفردة أم ضمن مصنف، وهم وإن كانوا يكتبون لغيرهم فإنهم أول من ينتفع بما يكتبون.

      والمؤمن إذا اعتنى بصلاح باطنه، وسعى في زيادة إيمانه، وعمل على رسوخ يقينه، وأرى الله -تعالى- من نفسه اجتهاداً وجِدَّاً في ذلك أعانه الله -تعالى- وسدده ووفقه لما أراد، والآيات الدالة على ذلك كثيرة جداً، قال الله -تعالى-: {وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} (مريم:76)، وقال -تعالى-: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} (محمد:17)، أي: والذين قصدوا الهداية وفقهم الله -تعالى- لها فهداهم إليها وثبتهم عليها وزادهم منها.

تأصل فساد القلب بالشبهات أو بالشهوات

     السبب الرابع هو تأصل فساد القلب بالشبهات أو بالشهوات؛ فقد يبتلى العبد بشبهة لا يصرفها عن نفسه بالمحكم من الشريعة، ولا يستعيذ بالله -تعالى- من شرها، ولا يلجأ إلى العلماء الراسخين في دحضها، فتتمكن من قلبه، وتعمل عملها فيه؛ فينقلب بسببها عن منهجه، وبسبب الشبهة في الدين انتكس عدد من الأذكياء المشاهير قديما وحديثا.

     وقد يرد على القلب شهوة معصية يلتمس لها الإباحة بعسف النصوص وتحريف معانيها؛ فيستسيغ ذلك في كل ما يعرض له من شهوة، حتى يكون ديدنه تحريف الشريعة، واتباع المتشابه منها، واستخراج شواذ الفقه، فيردى بسبب شهوته.

     وأحياناً يكون تحريفه للشريعة لأجل غيره من ذوي الجاه أو المال أو الإعلام؛ لينال حظوة عندهم، فشهوته تكون في حظوته عندهم، ولا ينال ذلك إلا باتباع شهواتهم في إباحة ما حرم الله -تعالى- عليهم، أو إسقاط بعض الواجبات عنهم.

     أو يكون فيه شهوة بغي وانتصار للنفس، تظهر حال مساجلته لأقرانه؛ فينتصر لنفسه بمخالفة منهجهم ولو كان حقاً؛ لمجرد أنه يريد مناكفتهم فيه، والانتقام منهم، وهو في واقع الأمر لا ينتقم إلا من نفسه، والانتصار للنفس سبب للذل وضعف الانتصار للحق.

     يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى-: والقلب يتوارده جيشان من الباطل: جيش شهوات الغي، وجيش شبهات الباطل، فأيما قلب صغا إليها وركن إليها تشربها وامتلأ بها؛ فنضح لسانه وجوارحه بموجبها، فإن أشرب شبهات الباطل تفجرت على لسانه الشكوك والشبهات والإيرادات؛ فيظن الجاهل أن ذلك لسعة علمه، وإنما ذلك من عدم علمه ويقينه، وقال لي شيخ الإسلام رضي الله عنه وقد جعلت أورد عليه إيراداً بعد إيراد: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة؛ فيتشربها فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة، تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقراً للشبهات، أو كما قال، فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك.

      ففساد القلب وزيغه إنما يكون بسبب شبهة أو شهوة يستسلم لها العبد فيسلب التوفيق، ويحيق به الخذلان، ويعاقب على تقصيره في تحصين قلبه، واستسلامه لوارد الشبهة أو الشهوة، وقد قال الله -تعالى- في المنافقين {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا}(البقرة:10)، وقال -سبحانه- في اليهود: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ} (الصَّف:5)، وقال -عز وجل- في المؤمنين الذين دافعوا وارد الشبهات والشهوات: {وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}(الأحزاب:22)، وكما لا يمكن للإنسان أن يصعد سلماً ثم يجد نفسه في القبو، فلا يمكن أن يترقى في الإيمان واليقين، ويجاهد في صلاح قلبه ثم يجد نفسه زائغاً منحرفاً عن الحق مفارقاً أهله؛ فإن عدل الله -تعالى- وحكمته ورحمته تأبى ذلك، قيل للإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: من نسأل بعدك؟ قال: عبد الوهاب الوراق، قيل له: إنه ليس له اتساع في العلم، قال: إنه رجل صالح مثله يوفق لإصابة الحق.

الانفصام بين الظاهر والباطن

     السبب الخامس: هو الانفصام بين الظاهر والباطن، ثم اليأس من رحمة الله تعالى، وذلك بأن يكون العبد مقيماً على معصية لم يستطع الانتهاء عنها مع محاولاته المكرورة، ولاسيما إذا كان ذلك مما يتعلق بالشهوات، فيقذف الشيطان في قلبه أنه منافق؛ إذ كيف يقيم على هذه المعصية، ويخفيها عن مشايخه وأقرانه، ويظهر أمامهم بمظهر أهل الاستقامة والتقوى، ولا يزال هذا الصراع في قلبه إلى أن ييأس من الإقلاع عن معصيته، ويرى أنه لا يمكن أن يصاحب الأخيار وهو على هذه الحال، فيتنصل منهم شيئاً بعد شيء، ويتخذ رفقة أخرى لا ضير أن يبوح لهم بسره، ويظهر معصيته أمامهم، ويظن أنه ارتاح من تأنيب ضميره.

      ولو علم المسكين أن تأنيب قلبه له الذي يجده وهو مع الأخيار خير له من مفارقتهم، فهو دليل على حياة قلبه، وعلى بقاء النفس اللوامة، أما مفارقته لهم، وإظهاره لمعصيته، وانقلاب حاله فهو إماتة للنفس اللوامة، وتسليم قياده للنفس الأمارة بالسوء.

منافسة الأقران

     فالمرء قد يكون له قرين في مثل استقامته أو علمه، لكنه تقدم عليه بالحظوة عند الناس، أو بمنصب ديني، أو بالشهرة، أو يفتح الله -تعالى- له بابا من العلم أو الرزق لا يفتحه لقرينه، فيحسده على ذلك، ويركب الصعب والذلول للحاق به ولو تنازل عن بعض مبادئه أو أكثرها، وينحصر همه في أن يصله أو يتعداه، ويعظم ذلك إذا كان قرينه أقل منه علماً أو دعوة، أو كان أحد تلاميذه، أو اهتدى عليه فيغار منه، وأعرف شخصا كذلك؛ إذ ما زال يتقرب لذوي الجاه بالوشاية في قرين أصغر منه لحسده إياه على ما آتاه الله -تعالى- من العلم حتى فاقه، ومنافسة الأقران في حظوظ الدنيا تؤدي إلى ذل النفس وانحطاطها، وبيعها الدين وتسخيرها الفقه لخدمة الخلق؛ لطلب نصرتهم وعزهم، يقول ابن عاشور -رحمه الله تعالى-: الحاجة إلى الناصر لا تكون إلا من العجز عن الانتصار للنفس.

 الاغترار بالأتباع

     السبب السابع: أن يكون للشخص أتباع يظن أنهم ينصرونه ولا يتخلون عنه، فلا يقع ما ظنه منهم فينتقم منهم؛ من حيث يشعر أو لا يشعر- بمخالفة منهجهم ولو كان صواباً، وكل نبي حمل أعباء الدعوة وحده، وتحمل ما يناله منها وحده، ولم ينتظروا نصرة من غير الله -تعالى- وهم قدوة الدعاة إلى الله تعالى.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك