رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ د.إبراهيم بن محمد الحقيل 13 يونيو، 2017 0 تعليق

حتى تثبت القلوب ولا تنتكس (2) من أسباب الانتكاس الجهل بسنن الله في خلقه

 

تحدثنا في العدد الماضي عن أهم الأسباب التي تؤدي إلى كثرة الانتكاس في الناس، وتقلب قلوبهم، وتغير مناهجهم، وانتقالهم من فكر إلى فكر، ومن منهج إلى آخر، بل من الاستسلام لله -تعالى- ولشريعته إلى التمرد عليه وعلى شريعته، وذكرنا منها مشارطة الله -تعالى-، واليوم نتكلم عن السبب الثاني وهو الجهل بسنة الله -تعالى- في معاملته لعباده.

     والجهل بسنة الله -تعالى- في معاملته لعباده فيرى المتمسك بالدين أن نصوص النصر والعز والتمكين، وكون العاقبة للمتقين تتناوله وإخوانه، وأنهم الموعودون بذلك، مع ما فيهم من نقص وخلل في تحقيق شروطه، وأيضاً ما يعتريهم من استعجال في وقوعه، واستبطاء لتحقيقه؛ فيكيفون وعد الله -تعالى- لعباده بالنصر والتمكين على ما في أذهانهم، ويخضعون سنن الله -تعالى- في خلقه لمطلوبهم وعجلتهم.

العجلة طبع في الإنسان

      والعجلة طبع في الإنسان لا يكاد ينفك عنه {خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ}(الأنبياء:37)، والنبي صلى الله عليه وسلم  لما أخبر عن تمكين الله -تعالى- لدينه قال: «وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ»؛ فهو استعجال في طلب النصر، وتحقق سنن الله -تعالى- في عباده، ومن هنا ندرك الحكمة من كثرة التأكيد على أن وعد الله -تعالى- حق وقرنه بالأمر بالصبر والإخبار أن العاقبة للمتقين؛ لأن النفس البشرية جزوعة ملولة كثيرة السخط والتذمر، نزاعة للكسل والدعة والهوى، فلابد من اليقين مع الصبر لتحقق الوعد{فَاصْبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}(هود:49)، {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ}(الرُّوم:60) وتكرر هذا الأمر في آيتين أخريين، وأمة بني إسرائيل عذبت عذاباً أليماً طويلاً على يد فرعون وجنده، ومع ذلك كانت وصية موسى لهم هي الصبر {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِالله وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لله يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف:128)، وليس من الصبر في شيء تغيير المنهج الصحيح والانقلاب عليه استبطاء للنصر والتمكين.

 فالواجب على المؤمنين عموماً وأهل الدعوة، خصوصا أن يجعلوا مشاعرهم وسلوكهم وتصوراتهم تجاه الأمة وقضاياها، وما يحصل لها من الألم والذل والهوان على أيدي أعدائها، وما يُرغب فيه من نصرها وعزها والتمكين لها، خاضعة للنصوص لا أن نخضع النصوص لرغباتنا وأهوائنا، فإن سنن الله -تعالى- لا تتبدل.

أشهر قضية للمسلمين

      ولو نظرنا إلى أشهر قضية للمسلمين مع أعدائهم في عصرنا، وأكثرها تناولاً في كتاباتهم وخطبهم ومحاضراتهم ومجالسهم هي قضية احتلال اليهود بمعونة النصارى لبيت المقدس قبل ستة عقود، وهي القضية التي عجز المسلمون عن نجدة إخوانهم فيها، فأدى ذلك إلى يأس كثير من الناس حتى ممن ينتسبون للعلم والدعوة من حلها، فركبوا مراكب التطبيع مع اليهود، أو على الأقل سكتوا عن هذه القضية لمللهم من تناولها.

      ولو أمعنا النظر في التاريخ لوجدنا أن الصليبيين احتلوا بيت المقدس زهاء تسعين سنة، وعطلت الصلاة في المسجد الأقصى، ورفع الصليبيون عليه صلبانهم، واتخذوه اصطبلات لخيولهم، وحظائر لخنازيرهم، وربما داخل كثيراً من القلوب آنذاك يأس من عودته للمسلمين، لكنه عاد بعد تسعين سنة من البناء والدعوة والجهاد، وكثير من الذين شاركوا في إعادة بناء صفوف الأمة آنذاك، ودعوة الناس إلى أن يعودوا إلى دينهم، ويتوبوا من ذنوبهم، وكانوا فاعلين في تحقق النصر العظيم الذي توج على يد صلاح الدين -رحمه الله تعالى- بطرد الصليبيين منه، كثير منهم لم يذوقوا حلاوة هذا النصر، واخترمتهم المنايا قبل إدراكه، ومنهم الملك العادل نور الدين، وليس صلاح الدين إلا ثمرة من ثمراته.

المتحمسين لدين الله تعالى

      إن كثيراً من المتحمسين لدين الله -تعالى- يزعجهم حال الأمة وضعفها، وانتهاك الملأ منها للحرمات، وتعطيل الشرائع، والصد عن دين الله -تعالى- فلا يتحلون بالصبر والحكمة في مواجهة هذا الواقع الأليم، ولا يصدرون عن العلماء الربانيين، بل منهم من يطعنون فيهم متهمين إياهم بالمداهنة والجبن والضعف، ويظنون أنهم أقدر من العلماء على مواجهة الملأ من أقوامهم، وأن الناس ينصرونهم؛ فيعرضون أنفسهم لما لا يطيقون من البلاء، فيؤدي ذلك بهم إلى الانتكاس، والانقلاب على المنهج الصحيح.

      والله -تعالى- رحيم بعباده، عليم بقدرتهم وطاقتهم، فلم يكلفهم ما لا يطيقون {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}(البقرة:286)، {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}(التغابن:16)، وتغيير المنكر كان فيه تدرج من اليد إلى اللسان إلى القلب حسب القدرة، وأباح الله -تعالى- النطق بكلمة الكفر لدفع البلاء، ولحماية المؤمن نفسه من الافتتان، مع أن كلمة الكفر أسوأ شيء يقال وهي سبب للعذاب.

 وقد روى حذيفة -وهو أعلم الصحابة بالفتن وأسباب النجاة منها- عن النبي[ أنه قال: «لاَ ينبغي لِمُسْلِمٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ، قِيلَ: وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قال: يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلاَءِ لِمَا لاَ يُطِيقُ».

إصلاح النفس

      والمؤمن مطالب بإصلاح نفسه، ثم تعدية هذا الصلاح إلى غيره، فإذا كان سعيه في إصلاح غيره يعود على نفسه بالفساد كف عن ذلك، وهذا يتصور وقوعه حال الفتن، وغلبة الأهواء، وقوة أهل الفساد، وتمكنهم من البلاد والعباد؛ ولذا جاء الأمر بالعزلة حال غربة الدين، وكثرة الفتن؛ للحفاظ على النفس من التردي والتبديل والانقلاب، وعلى هذه الأحوال تحمل الأحاديث والآثار، ومنها:

1- حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: «بَلْ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عن الْمُنْكَرِ حتى إذا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كل ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعْ الْعَوَامَّ».

 2- حديث عَبْدَ الله بن عَمْرٍو قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كَيْفَ أنت إذ بَقِيتَ في حُثَالَةٍ مِنَ الناس؟ قال: قلت: يا رَسُولَ الله، كَيْفَ ذلك؟ قال: إذا مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ وَكَانُوا هَكَذَا -وَشَبَّكَ الراوي بين أَصَابِعِهِ يَصِفُ ذَاكَ- قال: قلت: ما أَصْنَعُ عِنْدَ ذَاكَ يا رَسُولَ الله؟ قال: اتَّقِ الله -عز وجل- وَخُذْ ما تَعْرِفُ، وَدَعْ ما تُنْكِرُ، وَعَلَيْكَ بِخَاصَّتِكَ وَإِيَّاكَ وَعَوَامَّهِمْ».

3- قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه : «إنَّ أول ما تُغْلَبُونَ عليه من الْجِهَادِ الْجِهَادُ بِأَيْدِيكُمْ ثُمَّ الْجِهَادُ بِأَلْسِنَتِكُمْ ثُمَّ الْجِهَادُ بِقُلُوبِكُمْ، فَأَيُّ قَلْبٍ لم يَعْرِفْ الْمَعْرُوفَ وَلاَ يُنْكِرُ الْمُنْكَرَ نُكِّسَ فَجُعِلَ أَعْلاَهُ أَسْفَلَهُ».

4- حديث سَعِيدِ بن جُبَيْرٍ قال: قال رَجُلٌ لاِبْنِ عَبَّاسٍ: «آمُرُ أَمِيرِي بِالْمَعْرُوفِ؟ قال: إنْ خِفْت أَنْ يَقْتُلَك فَلاَ تُؤَنِّبْ الإِمَامَ فَإِنْ كُنْت َلاَ بُدَّ فَاعِلاً فِيمَا بَيْنَك وَبَيْنَه».

5- قول حذيفة رضي الله عنه قال: «إني لأشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله».

6- قول ابن مسعود رضي الله عنه قال: «إنكم في زمن الناطق فيه خير من الصامت، والقائم فيه خير من القاعد، وسيأتي عليكم زمان الصامت فيه خير من الناطق، والقاعد فيه خير من القائم، فقال له رجل: كيف يكون أمر من عمل به اليوم كان هدى، ومن عمل به بعد اليوم كان ضلالة؟ فقال: اعتبر ذلك برجلين من القوم يعملون بالمعاصي، فصمت أحدهما فسلم، وقال الآخر: إنكم تفعلون وتفعلون فأخذوه فذهبوا به إلى سلطانهم، فلم يزالوا به حتى عمل مثل عملهم».

7- كان الأحنف -رحمه الله تعالى- جالساً عند معاوية رضي الله عنه فقال: «يا أبا بحر، ألا تتكلم؟ قال: إني أخاف الله إن كذبت وأخافكم إن صدقت».

8- قال مطرف بن عبد الله بن الشخير -رحمه الله تعالى-: «لئن لم يكن لي دين حتى أقوم إلى رجل معه مئة ألف سيف أرمي إليه كلمة فيقتلني إن ديني إذاً لضيق».

 قال ابن عبد البر -رحمه الله تعالى- بعد أن ساق جملة من الآثار: «أجمع المسلمون على أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه، وأنه إذا لم يلحقه في تغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى، فإن ذلك لا يجب أن يمنعه من تغييره بيده، فإن لم يقدر فبلسانه، فإن لم يقدر فبقلبه، ليس عليه أكثر من ذلك، وإذا أنكره بقلبه فقد أدى ما عليه إذا لم يستطع سوى ذلك، والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم  في تأكيد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جداً لكنها كلها مقيدة بالاستطاعة».

     والناس في هذا الباب طرفان ووسط؛ فطائفة اتكؤوا على نصوص الرخصة لتعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسوغوا المنكرات بأنواع الحيل، وعدوا النهي عن المنكر نوعاً من الخروج المذموم، وهؤلاء هم مرجئة العصر، ولا فرق بينهم وبين العلمانيين إلا أن هؤلاء يتمسحون بالشريعة، وينطقون بالكتاب والسنة، وإلا فهم في النهاية يلتقون مع المشروع العلماني التغريبي.

 وطائفة أخرى أخذوا بنصوص العزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يفطنوا لقدراتهم، وظنوا أنهم يقوون على البلاء؛ لكنهم لما ابتلوا افتتنوا فغيروا مناهجهم، وانقلبوا على إخوانهم، وكانوا طرائق قدداً.

 وأهل الوسط هم الذين عملوا بنصوص العزيمة في مواطنها، وأخذوا بنصوص الرخصة في مواضعها، وفروا من الفتن، ولم يعرضوا أنفسهم لما لا طاقة لها به من البلاء؛ فسلم لهم دينهم، ودرءوا من الشر ما استطاعوا، وما زالوا ثابتين، ثبتنا الله -تعالى- وإياهم على الحق المبين.

      والمؤمن إذا عجز عن النهي عن المنكر مباشرة لجأ إلى الأمر بالمعروف، فإن أمره بالمعروف نهي عن المنكر بطريق غير مباشر، والانفتاح الذي أصيبت به بلادنا وإن أدى إلى تسرب منكرات كثيرة، وتسبب في تطاول المنافقين على الشريعة وحملتها ومؤسسات تبليغها؛ فإن فيه خيراً من جهة تنشيط الإنكار باللسان وبالقلم؛ فإن دعاوى حرية الرأي التي يتكئ المنافق عليها في تسويق المنكر يستطيع المحتسب أن يتكئ عليها في النهي عن المنكر، وذم أهله، وفضيحة المسوقين له.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك