رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: إبراهيم بن محمد الحقيل 6 يونيو، 2017 0 تعليق

حتى تثبت القلوب ولا تنتكس (1) الحق غاية وليس وسيلة

 

{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}(آل عمران:8}، «يا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قلبي على طَاعَتِكَ»، «يا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قلبي على دِينِكَ»، «اللهم إني أعوذ بك من الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ»، «اللهم إني أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ اللهم إني أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ في ديني ودنياي وأهلي ومالي»، لا يعرف العبد قيمة هذه الأدعية المأثورة وأهميتها إلا حين يرى كثرة الانتكاس في الناس، وتقلب قلوبهم، وتغير مناهجهم، وانتقالهم من فكر إلى فكر، ومن منهج إلى آخر، بل من الاستسلام لله -تعالى- ولشريعته إلى التمرد عليه وعلى شريعته.

     لقد رأينا وسمعنا لأناس كانوا من أهل الخير والصلاح والعلم والدعوة والاحتساب والجهاد، أضحوا من أهل الردة والزندقة والإلحاد! ورأينا دعاة رزقهم الله -تعالى- من تحصيل العلم وقوة الحجة وحدة العقل وروعة البيان ما حشد جمهور الأمة خلفهم، وشرقت محاضراتهم في الأرض وغربت، ثم خلعوا جلودهم ولبسوا جلودا غيرها، واقتحموا ميادين من كانوا قبل ينتقدونهم، وقبلوا منهم استضافتهم في صحفهم وفضائياتهم، ولم يكن ذلك بالمجان أو لتبليغ الدعوة فحسب، ولكل تنازل ثمنه!

     ورأينا من استسهلوا إباحة المحرمات، وإسقاط الواجبات، ومنهم من قضوا شطر حياتهم في حراسة الفضيلة ثم انقلبوا يبيحون ما يروج للرذيلة ويقضي على الفضيلة.  وسمعنا عمن بكت الجموع لحسن أصواتهم بالقرآن، ولبكائهم في قراءتهم ودعائهم فارقوا المحاريب إلى غيرها!

 ورأينا من خضعوا لضغط الواقع الاقتصادي فتساهلوا في أنواع من المعاملات المحرمة، ووظفتهم قلاع الربا في لجانها لتسبغ الشرعية على كثير من تجاوزاتها!

     ورأينا من خضعوا لضغط الواقع السياسي، ومتطلبات الجاه والإعلام فحولوا قطعيات الشريعة إلى ظنيات، ثم أتوا عليها بالمسح والتحوير والتدوير لإضعاف الولاء والبراء، وإعلاء شأن الروابط الجاهلية، وتفتيت الرابطة الإيمانية، وتسويق آثام الحضارة المعاصرة.  

     كل أولئك وقع ولا يزال يقع، وهو مرشح للازدياد، وما كان أحد يظن قبل عقدين أن شيئا من هذا سيحدث، وهو ينبئ عن ضعف النفس البشرية التي قد تتبدل قناعاتها بين لحظة وأخرى؛ فلا حول ولا قوة للعبد إلا بالله العزيز الحكيم. ولقد حاولت أن أتلمس أسباب انقلاب القلوب، وتبدل القناعات، وانتكاس المفاهيم عند المبدلين؛ فوجدت أن منها ما يعود إلى ذات المنقلب، ومنها ما يعود إلى المجتمع.

 القسم الأول: أسباب تعود لذات المنقلب ومنها:

مشارطة الله -تعالى- في دينه

     وقلَّ من الناس من يسلم من ذلك لكنهم لا يشعرون به، ولا يبين لهم إلا عند الابتلاء، ولو تأملنا أشهر حديث في النية الذي لا يكاد يوجد باب من أبواب الشريعة إلا دخله، بل كان أساساً فيه حتى عده بعضهم نصف الشريعة لوجدنا معنى المشارطة فيه: «فَمَنْ كانت هِجْرَتُهُ إلى الله وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى الله وَرَسُولِهِ وَمَنْ كانت هِجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصِيبُهَا أو امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلى ما هَاجَرَ إليه»، ومشارطة العبد لله -تعالى- في التزام دينه، والأخذ بعزائم شريعته قد تكون لغاية واحدة، وقد تكون لغايات عدة، وقد تكون لغاية صحيحة، كما قد تكون لغاية غير صحيحة، لكن أصل المشارطة غير صحيح.

 فمن المشارطة على غاية غير صحيحة التزام الشريعة لغاية دنيوية كطلب رئاسة دينية، فإذا لم تحصل بدّل حاله لنيلها بطريق أخرى، أو إذا حصلت له رئاسة دنيوية تخلى عن شيء من الدين لأجلها.

    وقد يصبر صبراً طويلاً على الدين لما يرجو من عاقبته الدنيوية، كما وقع لرويم البغدادي الزاهد (ت:303) قال جعفر الخلدي: من أراد أن يستكتم سراً فليفعل كما فعل رويم كتم حب الدنيا أربعين سنة، فقيل: وكيف يتصور ذلك؟ قال ولي إسماعيل بن إسحق القاضي قضاء بغداد وكانت بينهما مودة أكيدة؛ فجذبه إليه وجعله وكيلاً على بابه؛ فترك لُبْس التصوف، وَلَبِس الخز والقصب والديبقى وأكل الطيبات، وبنى الدور، وإذا هو كان يكتم حب الدنيا ما لم يجدها؛ فلما وجدها أظهر ما كان يكتم من حبها. نقل حادثته هذه شيخ الإسلام ابن تيمية وعلق عليها بقوله: هذا مع أنه -رحمه الله- كان له من العبادات ما هو معروف، وكان فقيهاً على مذهب داود، وكم رأينا في زمننا هذا من أشخاص بدلوا حالهم بعد الجاه والمال أو في سبيل طلبهما!

     ومن المشارطة على غاية صحيحة طلب العز والنصر والتمكين للأمة؛ فبعض الناس يلتحق بركب الأخيار، ويلتزم حدود الشريعة، وينافح عن الدين بيده وقلمه ولسانه، ولكنه لا يجعل غايته من ذلك تحقيق العبودية لله تعالى، وطلب مرضاته، أو لربما اشترك في قلبه مع هذه الغاية غايات أخر، كمن يجعل التزامه بالمنهج الصحيح سلماً لعز الأمة ورفعتها وتمكينها، كونه يوقن بهذه الحقيقة المقررة في الكتاب والسنة.

     وقد يرى كثير من الناس أن هذه غاية نبيلة ومطلوبة ومرغوب فيها، لكن يفوت عليهم أن تحقيق العبودية لله -تعالى- يجب أن يكون غاية لا يزحمها شيء البتة، ويكفي في سوء هذا المنهج أن أصحابه حولوا دين الله -تعالى- إلى وسيلة لتحقيق غاية أخرى وهي عز الأمة وتمكينها ونصرها، فإذا فات هذا المطلوب غيروا الوسيلة لتحقيقه.

     ومن راجع الخطاب الدعوي قبل عقدين فسيرى تكثيفاً في المبشرات بقرب نصر الأمة وعزها والتمكين لها، وأنها تعيش مرحلة مخاض، وأن نصر الله -تعالى- قريب، وأن اشتداد الظلمة يعقبه الفجر، وأن بعد العسر يسراً، فلما لم يقع ذلك كما قرروه في أذهانهم في زمن معين انسلخوا من منهجهم، وانقلبوا على من بقي عليه بالتنقيص والثلب؛ ليثبتوا للناس أن تحولهم عنه كان صحيحاً؛ وليتهم لما فعلوا ذلك كفوا أقلامهم وألسنتهم عن منهج الأمس ومن ثبت عليه، ولم يصطفوا مع المنافقين في حربهم عليه.

     ومن جعل المنهج الحق وسيلة لغاية أخرى فحري أن يفارق الحق إلى الباطل إذا لم تتحقق الغاية أو استبطأها. والواجب على المسلم أن يربي نفسه، وعلى الدعاة أن يربوا أتباعهم على جعل الحق هو الغاية، ولا يكون وسيلة لأي شيء آخر، ولنا عبرة في أنبياء الله -تعالى- الذين لم يُمَكَّن لبعضهم في الأرض، بل قتلهم أعداؤهم، وآخرون لم يتبعهم إلا قليل من الناس؛ فهذا نبي الله -تعالى- نوح -عليه السلام- يخبر الله عنه فيقول {وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} (هود:40)، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَرَأَيْتُ النبي وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ وَالنَّبِيَّ ليس معه».

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك