حائط البراق للمسلمين.. شرعا وقانونا (2)
استكمالا لما بدأناه في المقال السابق من تعليق على تصريح مسؤول أمريكي: بأن (حائط المبكى) يجب أن يبقى بيد إسرائيل!! ولن يكون هناك اتفاق سلام إذا ما تضمن (حائط المبكى)! وقوله: لا نستطيع تصور أي وضع لا يكون فيه (حائط المبكى) جزءًا من إسرائيل، وذكرنا قصة الحائط وتاريخه منذ الاحتلال اليهودي لدولة فلسطين، واستكمالا لذلك نقول:
اللجنة الدولية للبراق
قررت عصبة الأمم تكوين اللجنة الخاصة بحائط البُراق، التي ستتولى تحديد الحقوق في الحائط، بالشروط والقيود الواردة في قرار العُصبة؛ حيث رأت لجنة التحقيق أن تحديد الحقوق والادعاءات والمطالب بشأن الحائط الغربي بأسرع ما يمكن أمر ضروري لتوطيد الأمن وانتظام الحكم في فلسطين، وقرر الآتي:
أن يعهد إلى لجنة بتسوية هذه الحقوق والمطالب.
أن تؤلَّف هذه اللجنة من ثلاثة أعضاء من غير التبعية البريطانية، على أن يكون أحدهم على الأقل من المتضلعين بالقانون، ومن ذوي الاختبار القضائي الذي يؤهله لهذا المنصب.
أن تعرض أسماء الأشخاص الذين تود الدولة المنتدبة تعيينهم لعضوية هذه اللجنة على المجلس لأخذ موافقته عليهم، على أن يستشير رئيس المجلس الأعضاء بشأنهم إن كان المجلس غير ملتئم.
أن تنتهي مهمة هذه اللجنة حالما تضع قرارها بشأن الحقوق والادعاءات المشار إليها أعلاه.
وقد بعثت رسالة إلى السكرتير العام لمجلس عصبة الأمم في اليوم الثاني من شهر أيار سنة 1930م، ذكرت فيها أسماء الأشخاص الذين اختارتهم لعضوية اللجنة، وهم:
(أليل لوفغرن): وزير الشؤون الخارجية في حكومة أسوج سابقا، ومن أعضاء مجلس الأعيان فيها – رئيساً.
(شارلس بارد): نائب رئيس محكمة العدل في جنيفا (سويسرا)، ورئيس محكمة التحكيم النمساوية الرومانية المختلطة.
(فان كمبن): حاكم الساحل الشرقي لجزيرة سومطرة سابقا، ومن أعضاء برلمان حكومة هولاندا.
وقد وافق مجلس عصبة الأمم في 15 أيار سنة 1930م على تكوين اللجنة حسب اقتراح الحكومة البريطانية، وقد قام المستر (ستيغ سالين) من موظفي السلك السياسي لحكومة أسوج بوظيفة سكرتير للّجنة».
ولم تكن تلك النتائج لتتحقق، لولا أنّ الأمر أُسند إلى أهله من علماء ومؤرّخين وحقوقيِّين وسياسيِّين وخبراء، وتلك سُنّة الله -تعالى-؛ فإنّه ما وُسّد أمر إلى غير أهله إلا اختلّ وفسد وضاع، وما تولّاه أهله إلّا حصّلوا منه أعظم ما يمكن أن يُحصّل من خير.
وصلت اللجنة إلى القدس في 19/6/1930م؛ حيث بدأت عملها الذي استمر شهراً واحداً، لكنّها قوبلت بصراحةٍ رجوليّة من الفلسطينيّين منذ اللحظة الأولى، «كان يوم الاثنين أوّل اجتماع للجنة البراق المنتدَبة من عصبة الأمم، وصرّح عوني بك عبد الهادي العضو باللّجنة التنفيذيّة العربيّة باستعدادها لمعاونة اللّجنة في مهمّتها، مع الاحتفاظ بالحقّ في عدم قبول قرارها في مسألة البراق التي تهم العالم الإسلامي بأجمعه.
واجتمعت اللجنة للمرة الأولى في (جنوا) في 12 حزيران سنة 1930م، وأبحرت منها إلى فلسطين في اليوم التالي، بعد أن زُوّدت قبل مغادرتها بمختلف الوثائق والمستندات المتعلقة بالحائط الغربي، ووصلت اللجنة إلى القدس في 19 حزيران 1930م، وأقامت في فلسطين شهرا واحدا؛ فغادرت القدس في 19 تموز من العام نفسه، وكانت اللجنة في أثناء إقامتها في القدس، تعقد جلسة أو جلستين كل يوم من أيام الأسبوع تقريبا خلال يومي الجمعة والسبت، وبلغ عدد الجلسات التي عقدتها 23 جلسة، خصصت الجلسة الأولى منها لإلقاء الخطب الافتتاحية وللبحث في الأصول التي تتبع في التحقيق، كما أن الجلسات الأربع الأخيرة خصصت لإلقاء الخطب الختامية، وفي الجلسات الثماني عشرة الأخرى سمعت اللجنة الإفادات وشهادات الشهود.
وفي أثناء الجلسات التي عقدتها اللجنة سمعت شهادة 52 شاهداً، استدعي واحد وعشرون منهم وكلاء فريق اليهود، وثلاثون منهم وكلاء فريق المسلمين، وشاهد واحد، هو موظف بريطاني، استدعته اللجنة.
وقد أبرزت في أثناء الجلسات 61 وثيقة أو مجموعة من الوثائق، منها 35 وثيقة قدمها فريق اليهود، و26 وثيقة قدمها فريق المسلمين.
هيئة الممثلين والمندوبين عن المسلمين واليهود
تم الاتفاق على أن يحضر إجراءات التحقيق هيئة من المندوبين المفوضين المعترف بهم وكلاء عن كل من الفريقين المتداعيين، وطبقًا لهذا الاتفاق كان أعضاء الفريقين كالآتي:
فريق اليهود: الدكتور مردخاي الياش، والمستر داود يلين، والحاخام موشي بلاو، الذين أبرزوا أوراق اعتماد من رئاسة الحاخامين في فلسطين، وجمعية الحاخامين العالمية، والوكالة اليهودية لفلسطين، والمجلس الملّي اليهودي (فاعاد لومي)، وجمعية (اغودات إسرائيل).
فريق المسلمين: أما وكلاء فريق المسلمين فقد كانوا موكَّلين من قبل المجلس الإسلامي الأعلى، وهم: عوني بك عبد الهادي، وأمين بك التميمي، وأمين بك عبد الهادي، والشيخ سليمان أفندي الجوخدار، وأحمد زكي باشا، وفخري بك الحسيني، وفخري بك البارودي، وفائز بك الخوري، والشيخ حسن أفندي أبو السعود، وجمال أفندي الحسيني، وعزت أفندي دروزة، ومحمد علي باشا، والشيخ راغب أفندي الدجاني، وعبد الله أفندي الفضلي، وعبد العالي أفندي جوابحي، والشيخ حسن أفندي الأنصاري.
وقد مثلوا مسلمي جميع الأقطار الإسلامية تقريباً في العالم، بما في ذلك مراكش والجزائر وطرابلس الغرب ومصر وغيرها من البلاد الأفريقية، وفلسطين وسوريا وشرقي الأردن والعراق والعجم، والهند البريطانية والهند الهولندية الشرقية- هي التي أصبحت تُعرف بـ (إندونيسيا) بعد الحرب العالمية الثانية - وغير ذلك من البلاد في الشرقين الأدنى والأقصى.
وكان قد تقرر بموافقة الفريقين أن يقوم اليهود مقام المدعي وعلى ذلك يفتتحون الدعوى، بينما يقوم المسلمون مقام المدعى عليه .
وكلمة العالم الإسلامي ألقاها (عوني بك عبد الهادي)، قال فيها: يجب أن يكون اليهود هم البادئين بذكر شكاواهم، وعلينا أن نرد عليها، أما دعوانا فتتلخص بما يأتي: لا جدال بأن الجدار الغربي هو جزء من المسجد الأقصى، وهو مقدس عندنا معاشر المسلمين، وأن الممر الذي بجانبه هو ملك المسلمين، وهو وقف مقدس.
وكلاهما -أي الجدار والممر- يؤلفان مكاناً مقدساً يدعى (البراق)، له في نظرنا من الحرمة والقداسة ما لكل مقام ديني.
وأن المسلمين تسامحوا بأن يزور اليهود وغير اليهود ذلك الجدار لا أكثر، وأنه ليس لليهود أن يدّعوا أن لهم من الحقوق أكثر من ذلك، مثل الإتيان بالكراسي والسُّرُج والموائد إلخ، وهذا ما ننكره عليهم بشدة.
فإذا كان لليهود ما يقولون فليقدموا دعواهم، ويفصلوا حقوقهم، وعلينا أن نجيب عليها بما يلزم، وأخيراً تقرر السير على هذا المبدأ، أي أن يذكر اليهود شكواهم ويجيب العرب عليها. ثم كانت شهادة الأستاذ العلامة الشيخ إسماعيل الحافظ روعة من روائع الشهادات بأن حائط البراق وقف اسلامي وجزء من المسجد الأقصى المبارك.
وكان دفاع الأستاذ محمد علي باشا – وزير الأوقاف الأسبق - أمام لجنة البراق الدولية في القدس المتضمن الدفاع من الوجهتين السياسية والقانونية موفقاً سديداً أبهر الحضور .
تقرير اللجنة الدولية المقدم إلى عصبة الأمم المتحدة عام 1930م
انتهت اللجنة من وضع تقريرها المفصّل في مطلع كانون الأول 1930م، وخلصت فيه إلى استنتاجات حازت موافقة الحكومة البريطانية وعصبة الأمم معاً؛ فأصبح بذلك وثيقة دولية مهمة تثبت حق الشعب العربي الفلسطيني وحده في حائط البراق.
وممّا جاء في هذا التقرير: وإننا نوجز فيما يلي الاستنتاجات التي توصلنا إليها، بالاستناد إلى الاستدلالات والشهادات التي أشرنا إليها فيما تقدم: للمسلمين وحدَهم تعود ملكية الحائط الغربي، ولهم وحدهم الحق العيني فيه، لكونه يؤلف جزءاً لا يتجزأ من ساحة الحرم الشريف، التي هي من أملاك الوقف، وللمسلمين أيضًا تعود ملكية الرصيف الكائن أمام الحائط، وأمام المحلّة المعروفة بحارة المغاربة المقابلة للحائط، لكونه موقوفاً حسب أحكام الشرع الإسلامي لجهات البر والخير.
وإنّ أدوات العبادة، أو غيرها من الأدوات التي يحق لليهود وضعها بالقرب من الحائط، إما بالاستناد إلى أحكام هذا التقرير، أو بالاتفاق بين الفريقين، لا يجوز في حال من الأحوال أن تعد -أو أن يكون من شأنها- إنشاء أي حق عيني لليهود في الحائط، أو في الرصيف المجاور له.
ومن جهة أخرى يكون المسلمون ملزمين بعدم إنشاء أو إقامة أي بناء أو هدم أو تعمير أي بناء من أبنية الوقف (ساحة الحرم ومحلة المغاربة) المجاورة للحائط؛ بحيث يتجاوزون في عملهم هذا على الرصيف، أو يعيقون سلوك اليهود إلى الحائط؛ أو بحيث ينطوي ما يقومون به على إزعاج اليهود.
قُوى لا تعبأ بحقوق غيرها
وفي الختام هذا العرض لحوادث البراق لابد أن ندرك أنّ العالم تحكُمه قُوى لا تعبأ بحقوق غيرها، ولا بمصالح سواها، وأن انتظار العطف من أي أحد ليس إلا من صنعة المفاليس، وأمانيّ البُلهاء، وأحلام الجُهلاء.
ولا شك أن فصول القضية الفلسطينية على مدى 100 عام، منذ بواكيرها وبداياتها، كانت فيها صفحات مشرقة من الجهاد بالسيف والسنان، وبالعلم والبيان، وتُلحظ فيها العلاقة الطردية الحتميّة بين طبيعة الذين يتولّون أمر القضية ودرجة تأهيلهم وخبرتهم وتحصيلهم العلمي وتاريخهم العملي، وبين الحقوق التي نحصل عليها والإنجازات التي نحقّقها، ويكفيك أن تقارن بين الإنجازات التي حقّقها وُكلاء فريق المسلمين في قضية البراق، وفيهم من قد رأيتَ من أعلام السياسة والخبرة والاختصاص والفكر والقانون، وبين ما حقّقه فريق التفاوض في أوسلو! الذين لم يكن بينهم خبيرٌ واحد! لا في الاقتصاد ولا القانون ولا التاريخ ولا الجغرافيا السياسية ولا المياه، ولا الخرائط، ولا غيرها، بل ليس فيهم متخصّص في علم السياسة بصيغته الاصطلاحية التخصصيّة، في حين كان فريق العدوّ يبلغ الذّروة في كلّ هذه المجالات.
مضى زمن الملامات
نعم، لقد مضى زمن الملامات، وحان وقت العمل الجادّ لنفخ الروح في قضية المسلمين الأولى، بعلم وحلم وحكمة وحنكة، لا بالشعارات ولا بالمفاخرات، واللهَ نسأل، أن يقرّ أعيننا برجوع الحقوق، واستعادة المقدّسات، وبرؤيتنا أولى قبلتَيْنَا مطهّرة من دنس الغاصبين، وأن ينعّم -سبحانه- قلوبنا بالسجود في عافية في قلب المسجد الأقصى المبارك، والحمد لله رب العالمين.
لاتوجد تعليقات