جوبا تصر على إجراء استفتاء أحادي الجانب والمسيرية تتهمها بدق طبول الحرب- آبيي هل تعيد إشعال الحرب بين شطري السودان
انحياز الاتحاد الإفريقي (للدينكا نقوك) يعزز المخاوف من سلخ (آبيي) من الجسد السوداني
استبعاد (المسيرية) من التصويت يتجاهل الحقائق التاريخية ويضع السلام بين الشطرين على المحك
إصرار (سلفا كير) على الاستفتاء يهدد التقارب مع الخرطوم ويعيد التوتر بين الطرفين للمربع
لا يكاد السودان يخرج من أزمة محاولاً لملمة أشلائه إلا يفاجأ بأزمة أخرى تندلع أشد من سابقتها لتؤرق مضاجع شعبه قبل حكومته، فما أن تنفست الخرطوم الصعداء إثر الأجواء الإيجابية التي أحاطت بالزيارة التي قام بها للسودان (سليفا كيرميارديت) رئيس جنوب السودان واتفق الطرفان على تطبيع العلاقات بين الجارين اللدودين، وإصلاح مسارها، حتى انتهت موجة التفاؤل إثر إعلان مسؤولين بارزين في حكومة جوبا وفي مقدمتهم (باقان أموم) و(دينق اليور) شروع الجنوب في إجراء استفتاء حتى لو كان أحادي الجانب في إقليم (آبيي) المتنازع عليه بين السودان والجنوب، ولم تفلح اتفاقية السلام الموقعة بكينيا في حسم مصيرها، إما بالاستمرار في حضن السودان أو العودة لأحضان الجنوب، وهو إعلان أعاد الأجواء بين البلدين للتوتر.
استبعاد المسيرية
ولم يكتف الجنوبيون بالإعلان عن تنظيم استفتاء؛ بل حددوا له موعدًا في أكتوبر القادم حتى في حالة عدم دعم الخرطوم لهذا السيناريو؛ انطلاقًا من يقينهم بأن إجراء الاستفتاء - حاليًا وطبقًا لقرار المشورة الإفريقية بقيادة رئيس جنوب أفريقيا السابق (ثابو مبيكي) قد حسم الصراع بين الخرطوم وجوبا لصالح الأخيرة، فطبقَا للتقرير الذي رفعه لمجلس الأمن والسلم الإفريقي عَدَّت التسع مكونات - فقط- المنتمية لقبيلة (الدينكا نقوك) هي من يحق لها وحدها الاستفتاء، وبالتالي استبعاد قبائل المسيرية العربية لكونهم بدواً رحلاً وليسوا من سكان المنطقة الأصليين.
نتيجة محسومة
وتؤمن هذا الفرضية تصويت الأغلبية الساحقة من الجنوبيين لصالح انفصال (آبيي) عن السودان وانضمامها للجنوب، وهو ما سيفاقم من الأزمة السياسية والاقتصادية التي يعانيها السودان؛ فمنطقة (آبيي) الغنية تعد شريان الحياة للاقتصاد السوداني بعد أن حاز الجنوب وسيطر على ما يقرب من 75% من النفط السوداني بعد الانفصال؛ مما أثر على اقتصاد الخرطوم التي لم يعد أمامها من رئة نفطية إلا حقول (هجليج) المتنازع عليها وإقليم (آبيي) وبالتالي يحرم السودان من عوائده النفطية؛ مما يكون له تداعيات كارثية على الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلاد التي تواجه ارتفاعًا ملحوظا في أسعار المحروقات واعتراضات شعبية عن إلغاء الدعم الحكومي المخصص لها.
ولم تجد الخرطوم أمامها إلا رفض مسعى الجنوبيين لإجراء استفتاء أحادي الجانب في إقليم (آبيي) وفتح نوافذ مع عواصم القرار الدولي للتنبيه على خطورة هذا التوجه، بل وأبلغت المبعوث الأمريكي الجديد لدولتي السودان (دونالد بوث) أن إقدام جوبا علي تلك الخطوة من شأنه عرقلة أي تقدم يطرأ على علاقات البلدين في الفترة الأخيرة، مفضلاً دخول الطرفين في البلدين لتطبيق إدارة انتقالية مدنية للإقليم يعده لإجراء استفتاء يحظى بقبول الطرفين ووفق معايير قانونية، وهو ما تكرر بوضوح على لسان وزير الخارجية السوداني علي كرتي عبر رفضه الاستفتاء والتأكيد بأن قادة الجنوب يطلقون مثل هذه التصريحات للاستهلاك المحلي لاسيما أن الرئيسين (البشير وسلفا كير) اتفقا - خلال الزيارة الأخيرة - على تشكيل المؤسسات المدنية والشرطية، وإجراء الترتيبات الانتقالية، متهمًا أطرافًا جنوبية بمحاولة تكريس التوتر في العلاقات مع الخرطوم.
غير أن تصريحات كرتي لم تجد لها آذانًا مصغية في جوبا، بل وجاء الرد سريعًا من قبل (سلفا كير) نفسه عندما أعلن مضي حكومته في تجهيزاتها لإتمام الاستفتاء في شهر أكتوبر، بل وزاد على ذلك بتوجيه انتقادات لاذعة للاتحاد الإفريقي، واتهامه بعدم الجدية في تنفيذ مقترحاته والانصياع لرغبات الخرطوم التي رفضت توجهه، وهي لهجة يريد منها (كير) حث الأفارقة على ممارسة الضغوط على الخرطوم للموافقة علي إجراء الاستفتاء لكون نتيجته مضمونة جدًا في ظل استبعاد (المسيرية) فضلاً عن أن جوبا تعتقد جازمة بأن هذه الفرصة الذهبية لاستعادة (آبيي) استعادة واضحة يجعل أمر المفاوضات الثنائية يواجه بمماطلات، والعمل علي استهلاك الوقت بما يجبر الجنوب على اقتسام الإقليم الغني بالنفط مع السودان وهو ما يتحفظون عليه بشدة.
تدمير الجنوب
ولعل خطورة النهج الذي تتعامل به (جوبا) مع الأزمة أنه يتجاهل حقائق التاريخ في المنطقة التي تُعِدُّ (المسيرية )السكان الأصليين لها فضلاً عن أن حدود انفصال السودان عن مصر في الأول من يناير عام 1956م تجعل (آبيي) إقليما تابعًا لشمال السودان، بل ويحاول ابتلاع حقوق (المسيرية)؛ مما سيواجه رفضًا قاطعًا من القبيلة العربية التي أعربت عن استيائها لاستبعادها من الاستفتاء وهددت بعرقلته بكل الوسائل، وجاءت تصريحاتهم أكثر قوة؛ حيث قال الزعيم المسيري (مختار بابو نمر): نأمل من إخواننا الجنوبيين أن يعلموا أن مشكلة آبيي ستدمر الجنوب كله.
وقد حذر عدد من وجهاء القبيلة الخرطوم من أن رفضهم إجراء استفتاء أحادي الجانب في (آبيي) لا يرتبط بمواقفها، فسواء دعمت هذا الخيار أم رفضته فإنهم سيقاتلون لمنع أيلولة الإقليم الذي يعد شريان حياة لهم ولقطعانهم حال اندلاع الجفاف للجنوب، وهو أمر يعقد كثيرًا من المشهد الذي لم تستطع محكمة العدل الدولية حسمه خلال رفع النزاع أمامها، واكتفت بإعطاء الخرطوم جزءًا من الكعكة بل إن مراقبين عَدّوااللهجة المتشددة (للمسيرية) جاءت بوصفها رسالة لحكومة الخرطوم بعد أن لوحظ رد فعلها البطيئة في التعاطي مع تلويح الجنوبيين بإجراء الاستفتاء.
حياة أو موت
ويزيد من هذه الشكوك ويعزز من التوتر، بحسب الدكتور محمود أبو العينيين - أستاذ الدراسات الإفريقية بجامعة القاهرة - أن حكومة جوبا عدت قضية (آبيي) قضية حياة أو موت بالنسبة لها ، بل إنها أرسلت مبعوثين للعواصم العالمية الكبرى لحث الخرطوم للموافقة على إجراء الاستفتاء وفق معايير (مبيكي) وأعلنت النفير العام عبر تهيئة الأجواء لعودة أبناء (آبيي) من جميع دول العالم ومن جميع مناطق الجنوب والمقيمين في الشمال للتوجه للإقليم.
وتابع في ظل هذا الاهتمام الجنوبي اكتفت الخرطوم بالتلويح برفض إجراء الاستفتاء أحاديا وهو موقف أشعل الغضب في صفوف قطاعات واسعة من الشعب السوداني والمعارضة التي اتهمت نظام المؤتمر الوطني بالتخاذل والمقايضة علي (آبيي) بمساعدات نفطية وتسوية الديون الخارجية، وضمان وجوده في الحكم؛ لأنه لن يخوض حربًا من أجل (المسيرية) ولن يقيض نظام حكمه بسبب الصراع على (آبيي) بحسب المعارضة في الخرطوم.
مع هذا استبعد أبو العينين إقدام جوبا على إجراء الاستفتاء من جانب واحد؛ كونه سيدخلها في صراع مباشر مع الخرطوم، بل إن هذا سيقود إلى حملة تشكيك في شرعية الاستفتاء مما يؤكد أن جوبا - بهذا الإعلان والحملة الدبلوماسية المكثفة - ترغب في الضغط على الخرطوم لدفعها لتسريع إجراء الاستفتاء وفق وجهة نظر (ثابو مبيكي) وهو ما ستقاومه الخرطوم بشدة.
ومن البديهي التأكيد أن استمرار جوبا في إجراءات الاستفتاء الأحادي الجانب يشكل قنبلة موقوتة تهدد بعودة الصراع والحرب بين شطري السودان؛ فالخرطوم - ومهما قيل عن ضعف موقفها - لن تقبل بانفصال جزء آخر من السودان لكونه سيزيد من مأزق نظام البشير، ويغري المعارضة المتصاعدة ضده بالعمل على إسقاطه، ومن ثم فهذا ما يفسر للقوى الدولية منع إجراء الاستفتاء الأحادي؛ حيث استطاعت الدبلوماسية السودانية انتزاع موافقين رافضين لهذا الإجراء من جانب واشنطن ولندن؛ حيث شددت العاصمتان على دعمهما لاستفتاء يجري وفق معايير دولية وطبقا لإرادة الطرفين، وهو موقف - رغم منطقيته يمكن أن يتغير في حالة دخول شركات النفط المتعددة الجنسيات لتأييد طرف ما تتفق معه على حصولها على مميزات أكثر في ثروة الإقليم النفطية.
وساطة دولية
فيما يري الدكتور السيد فليفل، الخبير في الشؤون الإفريقية، أن تباعد الموقف بين الخرطوم وجوبا يزيد من تعقيد الملف عموما؛ فرغبة كل طرف في فرض إرادته ولاسيما الجنوبيين ستفاقم من التوتر بين البلدين حيث سيلجأ كل طرف للعزف علي وتر التشدد والتمسك بما يُعُّدْ حقوقًا له يهدد بعودة الحرب لتحكم العلاقة بين البلدين، لاسيما أن الخرطوم تشكك في أهلية الوسيط الأفريقي لاتخاذ قرارات دون موافقة أحد الأطراف، ثم إن الموقف الدولي غير واضح لصالح أي من الطرفين، بل سيخضع لحسابات الربح والخسارة ولعبة الضغوط واللوبيات الاقتصادية والسياسية بشكل قد يقود الأمر في النهاية لسيناريوهين لا ثالث لهما إما الحرب وإما تدويل الصراع.
غير أن هذا الموقف المعقد، وبحسب (فليفل)، قد يشكل بارقة أمل للوصول لتسوية ودية للصراع؛ حيث يمكن تحويل (آبيي) لمنطقة تكامل بين الشمال والجنوب أو الاتفاق على تقاسمه بين البلدين في حالة دخول وسطاء دوليين على خط الأزمة أو ترك الأمر لكل من قبيلتي (الدينكا نقوك) و(المسيرية) للوصول لتسوية تحفظ حقوق كل طرف ووضع أسس تعايش بين الطرفين وجعله الخيار الوحيد المتاح للابتعاد عن شبح الحرب الذي لا يصب في صالح الطرفين، بل قد يستنزف إمكانياتهما ويسهم في إسقاطهما في نهاية الأمر، وهو سيناريو لا يرجوه أحد.
لاتوجد تعليقات