ثقافة الحوار بيننا
زادت حدة الكلام وإصدار الأحكام وقسوة العبارات والألفاظ وإطلاق سيل من الاتهامات ولا تخلو من حظوظ النفس ودخول الشيطان ومشجعين من كلا الأطراف لإذكاء روح العداوة والكراهية والبغضاء بين أهل الحق -ونحسبهم والله حسيبهم- إن الحوار وسيلة للوصول إلى الحق وإقامة الحجة ودفع الشهبة والفاسد من القول والرأي، قال الحافظ الذهبي: «إنما وضعت المناظرة لكشف الحق، وإفادة العالم الأذكى العلم لمن دونه، وتنبيه الأغفل الأضعف».
فكلما طرح موضوع المظاهرات والاعتصامات والتجمعات جمعت أقوال أهل العلم على مسألة واحدة دون الاتفاق على التعريف وهل ينطق على أرض الواقع أم لا؟
والمسألة لا تعدو كونها اجتهادا ولكن المبالغة في صدور الأحكام «حرام، مبتدع، الخوارج»! أين الإخلاص والتجرد من خط النفس، قال الخطيب البغدادي: «وليكن قصده في مناظرته أيضاح الحق وتثبيته دون «المغالبة للخصم، والسلف ذموا التعصب للكلام ووجهة النظر؛ لأنها تنشر الفوضى الفكرية وأحادية الآراء في المسائل التي يتسع فيها الاجتهاد والحق أحق أن يتبع إذا كانت مدعومة بالأدلة القطعية، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يأتيه الرجل ليناظره فيذهب وقد حصل على علم جديد.
والحوار لا بد له من العدل فلا يكون انتصار للنفس، ولكنه انتصار الحق، ويجب أن يكون هدفك إرضاء الله عز وجل ويتجلى ذلك في حسن الاستماع والانصات وليس في أن تتكلم قال الحسن البصري: «إذا جالست فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول»، فلا تقاطع من يحاورك ولا يكن همك التعصب للرأي والانفعال؛ لأنه حتما سيؤدي ذلك إلى الفرقة والنزاع، ولو تأملنا في السيرة لوجدنا أن هناك مواقف لم يعنف النبي [ على أحد الطرفين، فمثلا قال: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» فأدرك بعضهم العصر في الطريق، وقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها فلما ذكر ذلك للنبي [ فلم يعنف واحداً منهم، رواه البخاري ومسلم.
والنزاع شر: «ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم»، وعلينا بالحلم والرفق والحفاظ على رابطة الأخوة ولا يوجد أشر من فرعون الذي ادعى الألوهية فلما بعث الله عز وجل موسى وأخاه هارون عليهما السلام، قال لهما: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى}، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ولو أنه كلما اختلف مسلمان تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة».
فمدرسة السلف تعلمنا منها أن يكون هدفنا من الكلام نصرة لله عز وجل وليس نصرة للنفس؛ فالنفوس العالية السامية لا تبالي أن يظهرالحق على لسانه أو لسان خصمها، وذلك إحقاقاً للحق والعمل به والدعوة إليه، «فكونوا عباداً لله إخوانا».
فإزالة ملابسات المسألة وشبهاتها أصبحت ضرورة، وإعطاء المسألة مزيداً من البحث والدراسة حتى تطمئن النفوس بعد الرجوع إلى النص لدرء النزاع.
ومن أهم الجزئيات في مسألة الحوار حسن الفهم وعدم إساءة الظن وعدم المداهنة؛ فإذا فهمنا حجج الطرف الآخر وأدلته وأقواله ومراده من الألفاظ والمصطلحات تحقق المراد، قال ابن القيم: «ولما كان المقصود بالخطاب دلالة السامع وإفهامه مراد الكلام من كلامه، وأن يبين له ما في نفسه من المعاني، وأن يدعو له ذلك بأقرب الطرق، وهنا تبرز مسألة الأمانة والتوثيق مدعماً بالشواهد والأدلة وأقوال العلماء وفهم النصوص فهماً صحيحاً سديداً وإبداء المدارك وإظهار الحجج التي هي مستند الأقوال والأعمال».
وأما مواطن الاتفاق فطريق إلى كسب الثقة وفشو روح التفاهم، والاتفاق يفتح آفاق التلاقي والقبول والإقبال على الحق، ويقلل الجفوة ويردم الهوة ويجعل فرص الوفاق والنجاح أفضل وأقرب، قال الشيخ صالح بن حميد في كتاب المدار: «والتعصب من آفات علماء السوء؛ فإنهم يبالغون في التعصب للحق، وينظرون إلى المخالفين بعين الازدراء والاستحقار، فتنبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة والمعاملة، وتتوفر بواعثهم على طلب نصرة الباطل، ويقوى غرضهم في التمسك بما نسبوا إليه، ولو جاؤوا من جانب العطف والرحمة والنصح في الخلوة، لا في معرض التعصب والتحقير لأنجحوا فيه».
وكلما ابتعدنا عن منهج التحدي والإفحام، وكل يدعي أن الأول خرج عن منهج السلف، والثاني يقول: أغلقتم باب الاجتهاد وأقحمتم النصوص وأقوال أهل العلم في غير هذه المسألة، فالتعسف في الحديث والتعمد لإيقاع الخصم في الإحراج لا تكسب التسليم والإذعان للحق، بل تحدث النفرة وما أحوجنا لكسب القلوب والشباب الصالحين ومن له خبرة من المصلحين الذين لهم باع في الدعوة والعبرة في كسب السلفيين ومن هو على المنهج الحق وليس استكثار الأعداء.
لا يكون الهدف من حواراتنا إعجاب المرء بنفسه وحب الشهرة والثناء والطعن والتجريح وانتقاص الرجال وتجهيلهم وتزيين الشيطان وتلبيس النفس والتوهم بقصد الحق.
فما أجمل أن تجتمع الكلمة وتترابط الجمل وأن نعتصم بحبل الله جميعاً، وليكن الحوار في مجالس العلماء.
نسأل الله أن يهدينا وإياكم للحق ويثبتنا عليه.
لاتوجد تعليقات