تونس في ثوبها الجديد- وصف الواقع الاجتماعي والدعوي
تشير تطورات الأوضاع في تونس، بعد مرور عام ونصف على هروب الرئيس وتغير الأوضاع السياسية والاجتماعية والدعوية، إلى أن تونس قد سارت في طريق جديد يتسم بالآمال الكبيرة والطموحات العالية ولكنه مليء بالمخاطر والتحديات، وهي تسعى للانتقال من نظام شمولي ظالم إلى نظام جديد يبحث عن آفاق جديدة تستظل الدعوة إلى الله في ظله، لتحقق طموحات الشعب التونسي المسلم، وتربط ماضيه بحاضره وتؤصل قيمه وتتصالح مع هويته التي لا ترتضي بدلا عن كتاب الله وسنة رسوله[ وفق ذلك الفهم الأصيل المدون في صحيح تراثنا الخالد للقرون الثلاثة المفضلة الأولى، فهل هناك بوادر لتحقق مثل هذه الطموحات؟ أم إن هناك عقبات وصعوبات لا بد من العمل على تذليلها والسعي لتجاوزها بجهود كبيرة تتسم بالواقعية والحكمة، وبمراعاة السنن الإلهية في كل تغيير؟
لن نطيل في فهم الشأن السياسي فذلك معروف وواضح لكل مراقب، فعملية الانتخابات قد تمت لتلقي بمسؤولية قيادة الدولة على عاتق حزب حركة النهضة ذات الخلفية الإخوانية، بتحالف ثلاثي مع حزبين آخرين من التيار العلماني في البلاد، وقد رفعوا شعار الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وكُلِّفوا فضلاً عن تسييرهم لشؤون الدولة بصياغة جديدة للدستور، سريعا ما حسموا سلبا بنده الأول الذي كان الناس يتطلعون لتغييره وهو ما يتعلق بتحكيم الشريعة، حيث اختاروا الإبقاء على الصيغة القديمة التي حرص الرئيس الأسبق بورقيبة على إدراجها بأن «تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها»، وهي صياغة علمانية لا تشير من بعيد أو قريب إلى الشريعة أو التحاكم إليها.
وقال في ذلك راشد الغنوشي: «إن العلمانية لا تناقض التصورات الدينية» وقال: «إن أهم فكرة في العلمانية هي حيادية الدولة إزاء الديانات وعدم تدخلها في ضمائر الناس»، وقال: «إن الإسلام ليس فيه ناطق باسم الدين أو باسم الله» وقال: «لا داعي لتغيير ذلك البند؛ حيث إن الإسلام أشمل من الشريعة، ولا داعي للتنصيص على الشريعة».
وهو ما أسفر عن نقاش حاد وفتور وخيبة ظن عند كثير من الفئات المتدينة في المجتمع والتي ساهمت بشكل أو بآخر في إيصال «النهضة» إلى الحكم.
أما على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، فاستمرت الأوضاع متردية عموما؛ مما جعل المعارضة تستغل تلك الأوضاع وتدعو إلى تظاهرات شعبية حاشدة واعتصامات وإضرابات للضغط على الحكومة وإرباكها، والدعوة حتى إلى إسقاطها في العديد من المرات.
وقد ظهرت الحكومة في مظهر غير القادر على التسيير وعلى قلة في الخبرة في سياسة الأمور ومكافحة بقايا نظام ابن علي ولاسيما على مستوى الإدارة التي لم يطلها إلى حد اليوم أي جهد تغييري يذكر، أما الإخفاقات فهي ظاهرة في سلوك الحكومة، منها استطالة أمد مرحلة صياغة الدستور التي لم يعلن بعد عن موعد لإنهائها واتسامها بقدر متزايد من التوتر والاحتقان بسبب إثارة المعارضة للعديد من القضايا المهمة والحساسة التي غفلت الحكومة عن معالجتها، ومنها مكافحة الفقر والبطالة والغلاء والتهميش، ومنها أيضا العجز عن تطهير أجهزة الإدارة من الفاسدين من أعوان النظام السابق، ولاسيما أجهزة الأمن والإعلام والقضاء، ومنها العجز عن إحداث تغييرات أساسية في السياسات الاقتصادية والاجتماعية إلى حد الآن.
ومنها أيضا تفجر المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تراكمت خلال عهد ابن علي، وتطلع كثير من فئات الشعب التي حُرِمت طويلاً من حقها في العيش الكريم إلى تحسين سريع لأوضاعها، ولاسيما أن مناخ الحرية الذي أتت به الثورة قد شجع على تزايد وتيرة الاحتجاجات الاجتماعية وجعل البلاد تشهد مرحلة جديدة من الصراع الطبقي الظاهر.
أما الساحة الدعوية فهي جزء ينسجم ويتكامل مع الأجواء العامة لبقية الأوضاع المذكورة؛ إذ ورِثَت الدعوة ساحةً فارغة محطمة خالية من العلم الشرعي تأثرت بسياسة تجفيف المنابع أيما تأثير، فنبتت فيها ظواهر غريبة استجابت لها قطاعات كبيرة من الشباب تتسم أحيانا بالتشدد والغلو، وأحيانا أخرى بالتسيب والإهمال في تفاوت كبير ملحوظ أمام غياب العلم الشرعي والمرجعيات العلمية السلفية التي تملك قدرة على التأصيل والفتوى.
والراصد للحركة الدعوية يلاحظ توجها كبيرا وإقبالا عارما على المساجد والدروس والمحاضرات، ولا يخلو ذلك من اندفاع وحماسة من قبل الشباب نحو العمل الجمعياتي لكن يغلب عليه السطحية وعدم الوضوح، وكل ذلك ناتج عن قلة الخبرة الميدانية في هذا المجال، أما التوجهات العامة فهي تدور حول الدعوات المعروفة في العالم الإسلامي وفق الآتي:
الدعوة السلفية وهي الدعوة الظاهرة الغالبة من حيث العدد الشبابي في معظم المدن ولكن لنا عليها المآخذ الآتية:
تجنح في كثير من أحيانها إلى الغلو وترفع شعارات متطرفة ينقصها في ذلك الموجه المشفق، فانقسمت إلى ثلاث فئات:
ما يعرف بالسلفية الجهادية وهي فئة متشددة تدعو إلى الجهاد والعنف اللفظي والسلوكي وتنحو شيئا ما إلى التكفير.
وفئة أخرى غالية أيضا تجنح إلى التبديع والتفسيق والانشغال بالقيل والقال والإغراق في نقد الجماعات وتصنيفها والطعن والقدح فيها؛ مما شغلهم عن العمل المثمر المفيد.
وفئة أخرى أكثرها بركة ونفعا وقد تسلحت بالعلم الشرعي ووقفت عند الدليل ودعت إلى تصحيح العقائد والتصورات والمفاهيم، وحذرت من الأوهام والخرافات والبدع بوسطية وعلم، ورفعت شعار الكتاب والسنة على منهج سلف الأمة دون غلو ولا تعصب ولا تحزب، ولا شك أن الطريق أمامها طويل إذ دعوتها مازالت في بداياتها ولكنها تسير على خطى ثابتة إن شاء الله.
السلفية السياسية
وهي عبارة عن حزبين أخذا التصاريح بعد الانتخابات وتسميا بالسلفية وليس لهما رصيد شبابي أو شعبي، ولا يملكان المؤهلات العلمية ولا القوى البشرية التي يمكن أن تُنجح تجربتهما.
حركة النهضة
وهي دعوة حزبية تقوم على عقلانية متساهلة اختارت طريق العمل السياسي وسيلة للتغيير، تعد التمسك بالكتاب والسنة على الطريقة السلفية تشددا وسطحية، وتدعو بتوسع إلى الفهم المقاصدي للنصوص لا تُفرق بين العقائد ولا تولي لها اهتماما، التفتت مؤخرا للعمل الدعوي والخيري محاولة الهيمنة على الساحة الدعوية وسحب البساط عن بقية التيارات القائمة، حضورها بين الشباب ضعيف عموما ولكنها تراهن على الفئات التي ربتها خلال فترة الثمانينيات من القرن الماضي، وهي الحزب الحاكم اليوم.
التيار الأشعري وهو تيار محلي خامل يتألف من بعض بقايا الزيتونة متزاوجا مع بعض المتصوفة الذين مُكِّن لهم في آخر سنوات حكم ابن علي، ومن مؤسساتهم إذاعة الزيتونة وجمعية المحافظة على القرآن الكريم والأخلاق الفاضلة، وقد وفد إليهم بعد الثورة طائفة الأحباش وهم جماعة من الأشاعرة الغلاة التكفيريين، وقد نجحوا في تحريك المشاعر الخاملة في قلوب الأشاعرة التقليديين وهيجوا مشاعرهم وحركوهم للتصدي لـ“الوهابية” كما يقولون، ويظهر من أنشطتهم أنهم يملكون المال وطول اللسان، والله المستعان.
الصفوية
للصفوية وجود ظاهر من خلال تحركات مشبوهة يقوم بها وفود ورجال أعمال إيرانيون، أسسوا لهم دعوة قامت على جمعية اسمها: الرابطة التونسية للتسامح، ولهم أنشطة واسعة في المواقع الاجتماعية وكذلك على الميدان؛ حيث كثر عددهم في مدينة قابس ولهم وجود في قفصة وصفاقس والقيروان وبعض المدن الجنوبية الأخرى، والملاحظ أنهم استقطبوا الكثير من الشخصيات الفاعلة في المجتمع ودعوهم إلى إيران للمشاركة في مؤتمرات مختلفة، ولا نشك في شراء بعض الذمم حتى إن مقالات تمجد الثورة الإيرانية والتراث الخميني صارت تنشر على أعمدة أقدم الصحف التونسية دون حياء أو خجل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.
المنصرون
لقد نشطت بعض الكنائس القديمة في عمليات التبشير الواسعة مستغلة غياب قانون رادع يمنع تنصير المسلمين، كما استغلت الفقر والحاجة للعديد من الأسر فنشطت ولاسيما في تنصير الأطفال في ظل غياب كامل لأي رادع أو مانع، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
الميزان الجديد لقوى المجتمع المدني
إذا كانت الثورة قد فتحت المجال السياسي بفضل ما انتزعه الناس من حريات، فإن المجال أيضا تم فتحه على مشهد لم يكن معهودا منذ أزمنة ليست بالقصيرة، ألا وهو صوت المتدينين بمختلف مشاربهم وتوجهاتهم، وقد بات واضحا فيه علو صوت الدعاة على قلّتهم على صوت أهل السياسة، وهكذا برز الخطاب الديني الذي ضاقت به ذرعا كل القوى الليبرالية والقوى اليسارية وما تعرف بـ «التقدمية»، وهو ما ضاعف من عوامل الصراع والتحامل ولاسيما على التيار السلفي والكيد له والتقول عليه والمبالغة في محاربته، ووصل الأمر في مناسبات عديدة إلى التطاول على المقدسات لاستدراج مفتعل للشباب إلى العنف فاعتدي على الصحابة وعلى شخص الرسول[ وقدحوا في كتاب الله، وبلغ بهم الأمر أن صوروا الذات الإلهية مجسما في رسوم كرتونية مسيئة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ورغم كل ذلك ما زاد الناس إلا رجوعا إلى الدين وبحثا عن مصادره الأصيلة، فكثر عدد المصلين وعدد الجمعيات بجميع تخصصاتها وألوانها، ويبقى السؤال مطروحا: هل ستنتقل الدعوة الإسلامية من مرحلة الفكرة وبدايات التأسيس إلى مرحلة الإسهام في صياغة جديدة لمشروع دعوي أصيل يعتمد الكتاب والسنة أصلا قويما في الاستدلال ويعتمد المنهج السلفي بوجهه المشرق النبيل بعيدا عن التشويه والباطنية؟ وهل سيدرك الشباب أن مهمتهم الدعوية تقوم على معرفة الحق ونشره وعلى رحمة الخلق بمساعدتهم وإنقاذهم من براثن الجهل والجوع والفقر والبعد عن الله؟
لا نشك أنها مهمة صعبة لا بد أن تتضافر فيها جهود المخلصين بجميع الإمكانيات البشرية والمادية لمقاومة التغريب والتنصير والباطنية، ومقاومة كل الانحرافات العقدية والفكرية والسلوكية بنفس طويل غير متسرع وبمثابرة وتوكل على الله، والابتعاد عن الاستجابة لأي استدراج أو الوقوع في شراك مختلف المناهج والتوجهات المخالفة للكتاب والسنة، وبالله وحده التوفيق والسداد.
لاتوجد تعليقات