رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. أحمد خليل خير الله 2 أبريل، 2018 0 تعليق

توقف عن البحث خارج نفسك – تغيير الداخل طوق نجاة في كل الأماكن والأزمان

 

 

من نعم الله التابعة لنعمة القرآن، نعمة أسباب النزول؛ فعلم أسباب النزول من العلوم الداعمة للتدبر العملي الميداني للقرآن الكريم، فهو علم يفتح الآفاق الرحبة للتجول في الجو النفسي لنزول الآيات، يقدح الأفكار داخل الأذهان، يفتح للمتدبر باب المعايشة الزمنية لنزول الآيات في أشرف الأزمنة، وآية الحديد التي بين أيدينا مثال عملي على ذلك، في أسباب نزولها الدقيق والواضح، قال -تعالى-: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون} (الحديد: 16).

     روى الإمام مسلم في (صحيحه) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين، وروي عن أنس بن مالك وابن عباس قالا: إن الله استبطأ قلوب المهاجرين، قال الحسن: يستبطئهم وهم أحب خلقه، وأعظم ما في الآية أنها لا تتحدث عن الإيمان، ولكنها تتحدث عن فاعلية الإيمان وآثاره المترتبة في نفوس أهل الإيمان، وفي واقعهم العملي، والآية منهجية عملية لمواجهة القلوب البطيئة في كل زمان ومكان مهما كان فعلها، ومهما كانت التحديات التي تواجهها، وقوام المنهجية في الخطوات الآتية:

 أولا:   فقه التساؤل

     كثرة التساؤل دليل يقظة ودليل (ثروة وعي), قال أبو يعلى لما نزلت هذه الآية: أقبل بعضنا على بعض يتساءلون: أي شيء أحدثنا؟! أي شيء أضفنا؟! وكأنها دورة تدريبية للتغيير من خلال إثارة التساؤل تحت عنوان: (ألم يأن)، حتى أسماها متدبر الزمان فريد الأنصاري -رحمه الله- (منزلة الآنية)، وقال ابن قتيبة: ألم يأن، يأن بمعنى «ألم يحن»،  منهجية وطريقة للتفكير، لمقاومة عدم الإنجاز أو البطء في الإنجاز، أو عدم الفاعلية، وذلك في كل شيء، والخطاب لأهل الإيمان بمنتهى الوضوح والشفافية والدقة والتحديد، (ألم يأن الأوان يا أهل الإيمان؟!). والتساؤل في القلب رحمة؛ لأنه طوق نجاة من الغرق في بحر النسيان، سفينة النجاة من الغرق في بحر: {نسوا الله فأنساهم أنفسهم} أو {نسوا الله فنسيهم}؛ فالمعاتبة لأهل الإيمان دليل محبة من الرحمن، أما من لا يستحق فجزاؤه النسيان (ألم يأن) منهجية للمراجعة، والمراقبة في كل لحظة تولد تساؤلات دائما في كل مجال، «ألم يأن أن نتحرك في الدعوة إلى الله؟!»، ألم يأن أن نهتم بصلاة الجماعة؟! ألم يأن أن تصلح تعاملك مع والديك؟! ألم يأن أن تخشع في صلاتك؟! ألم يأن أن يكون لك دور في مجتمعك؟! مسؤولية كل منا أن يفتش في نفسه، في فاعليته، أي المساحات في حياته أن يغزوها ويدفعها للفاعلية بجيش (ألم يأن)؟

 ثانيا:   التذكير بالإنجاز

     النداء للذين آمنوا، ما أجمل طريقة القرآن في التحفيز والدفع نحو العمل بتذكير أهل الإيمان بإنجازهم الأسمى والأعلى وهو (الإيمان)، وهو في غاية اللطف والحنان؛ فجميل أن يكون منهجية للتربية حتى لا يتوقف المبدأ على قول اللسان فقط، وهكذا قال الماوردي في (تفسيره)، بل لابد من الفاعلية وظهور آثار الإيمان أو أي مبدأ تبناه أهل الإيمان في ميدان العمل؛ فالإسلام ليس دين صوامع ولا نظريات، ولكنه دين ميدان، يا أيها الداعي أين آثار دعوتك؟! يا أيها المنفق ألم يأن للذين أنفقوا، ألم يأن للذين طلبوا العلم، ألم يأن للذين دعوا إلى الله، التذكير بالإنجاز في العتاب والتربية.

 ثالثا: البداية من الداخل

     توقف عن البحث خارج نفسك، فالبداية من الداخل ومن الداخل أولا، تم يتبعه التغيير في كل شيء. ذكر ابن أبي شيبة في أسباب نزول الآية كثرة الضحك في شباب الصحابة؛ فنزلت هذه الآية، وربما هناك أسباب أخرى مجملة أو تفصيلية، المهم أن القرآن قال: {أن تخشع قلوبهم}، وكأنه قانون يقول لك ثلاثة أشياء: قانون البداية من الداخل له ثلاث مدلولات:

1- عند كل تحدٍ الخطوات الأولى للمواجهة هي النظر إلى قلبك، فتوقف عن البحث خارج قلبك أولا ثم ابحث.

2- الخشوع والتركيز بداية لكل عودة، فالخشوع والتركيز الفرسان المنجزان اللذان سيوضع عليهما كل إنجاز وفاعلية؛ لذا خشوع القلب بداية كل نهضة والمشترك في كل عودة.

3- أمة (لا إله إلا الله) بداية الإصلاح في كل زمان، وأمام كل تحدٍ لابد أن يبدأ بموضع نظر الله وهو القلب؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»؛ فموضوع نظر الرب جزء في كل حل، وضرورة في كل حل مهما كانت الأحداث؛ لذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في أحواله كلها يقول: «اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»! إذاً، أن تخشع قلوبهم خطوة ثالثة في منهجية الإصلاح والعودة.

 رابعًا:مادة التغيير

     مادة التغيير المشتركة بين كل الطاعات هي (الذكر)؛ فذكر الله نجاة وحياة، وأعظم المشكلات تواجه بأيسر العبادات وهي الذكر، «أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق»، وعطف القرآن على الذكر من باب التأكيد وإبراز الأهمية؛ فالقرآن ذكر والذكر منه القرآن، إن لم يحيَ القلب بالذكر والقرآن؛ فما الذي يحييه؟!

     إن لم يخشع القلب بالذكر وللذكر، وبالقرآن وللقرآن؛ فما الذي سيجدي معه؟! قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله، والموعظة، وسماع القرآن، فتفهم وتنقاد له، وتسمع له وتطيعه؟ أ.هـ وقال الألوسي -رحمه الله-: ألم يأن لهم أن ترق قلوبهم لأجل ذكر الله -تعالى- وكتابه الحق النازل؛ فيسارعوا إلى الطاعة على أكمل وجه؟ أ.هـ

     الذكر والقرآن سبيل رباني للخروج من الرتابة والروتينية إلى الحركة والفاعلية، آية الحديد دعوة لمراجعة أثر الذكر والقرآن، ليس مجرد الأداء الطقوسي، الذي يهتم بأداء الطاعة دون ملاحظة أثر هذه الطاعة على واقع الطائع، الآية تقول نعم تذكر وتتلو القرآن، ولكن أين خشوع القلوب ؟!

خامسًا: تفعيل الموجود

تفعيل الموجود أبرك من البحث عن المفقود؛ فالآية لم تأتِ بجديد، لم تعد اختراع العجلة، ولم ترهقك في البحث خارج نفسك أو حتى سؤال غيرك، فقط قلبك هو، هو، وقرآن وذكر، ولكن أضف عليه مادة الخشوع والتركيز والتفعيل والانتباه.

 سادسًا: الاعتبار بمن سبق

     قال -تعالى-: {ولا تكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون}، أهل الكتاب قتلهم طول الأمد؛ لذا كان التنبيه سريعا، نعم هي أربع سنوات على إسلام الصحابة، ثم نزلت هذه الآية، ولكن أربع سنوات كانت كافية للمراجعة والتنبيه على عدم تكرار كارثة الغرق في مستنقع طول الأمد، أنت لا تعرف كم تبقى من عمرك، فلا يهم أربع، أو خمس، المهم أن كلا منا لا يدري كم سيبقى بعدها؛ لذا كانت الخطوة السادسة في هذه المنهجية هي الاعتبار وليس مجرد الاعتبار العام وإنما الاعتبار بالنموذج الجلي، اليهود والنصارى تحولوا إلى أهل فسق كما قست قلوبهم، والسبب كان عدم التفاعل للحظة.

 سابعًا: المراجعة والمراقبة

     المراجعة والمراقبة المكثفة مبدأ قرآني أصيل، الرب -جل وعلا- وهو الذي خلق العبد وخلق فعله، ورغم ذلك جاءت الآيات لتنبه الصحابة بعد أربع سنوات فقط، ثم وضع لهم المنهج الواضح في آية الحديد للاستفاقة واليقظة، وبعض القيادات، وكأنه يحلو له مشاهدة غرق من تبعه، أو كلفه بحمل الرسالة، يراه يغرق ويضيع أمام عينه، ولا يكلف نفسه بمجرد الإشارة، ناهيك عن التصريح والمكاشفة، بعضهم يحلو له إطفاء الحرائق وكأنه يستمتع بذلك، ولا يكلف نفسه في أن يمنع وقوعها رغم سهولة ذلك. بعضنا احترف مهنة رجل المطافئ فقط واستقال من وظيفة المعلم الموجه؛ فهو يضيع وقته في إطفاء حرائق كان -مع الأسف- هو شريكًا أصيلًا ومراقبًا أساسيًا على بدايتها منذ أن كانت شرارة، القرآن بعد أربع سنوات من إسلام الصحابة يرسل صيحة نذير، أفيقوا، قمة المراجعة والمراقبة والمكاشفة.

     خلاصة منهجية آية الحديد تقول لنا: توقف عن البحث خارج نفسك، اقتل المادية، التي تحيط بك في كل مكان، وانتقل إلى الربانية والأعمال القلبية، اقتل كل مسوغ يضخم لك الخارج المهم ويبعدك عن تغيير الداخل الأهم، خشوع القلب بالذكر والقرآن طوق نجاة في كل الأماكن والأزمان.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك