رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: فضيلة الشيخ الدكتور محمد علي فَركُوس 10 سبتمبر، 2012 0 تعليق

توجيهات نبوية (2) طرق انعقاد الإمامة الكبرى

ذكرنا في الحلقة السايقة أن سياسة الناس وفق شرع الله تعالى من أعظم واجبات إمام المسلمين، وذكرنا الأدلة الدالة على ذلك، وسنتطرق في هذه الحلقة إلى طرق انعقاد الإمامة الكبرى

 

هذا، وانعقاد الإمامة الكبرى يتمّ بأحد الطّرق الآتية:

-الطّريق الأوّل: الاختيار والبيعة من أهل الحلّ والعقد:

      أهل الحلّ والعقد من قادة الأمّة الذين يتمتّعون بالعلم والرّأي والمشورة والتّوجيه مخوَّلٌ لهم اختيار إمام المسلمين -نيابةً عن الأُمَّة- وَفْق شروطِ ومعاييرِ الإمامة الكبرى، فإذا ما بايعه أهل الحلّ والعقد ثبتت له بذلك ولاية الإمام الأعظم، ولزمت طاعتُه، وحَرُمت مخالفتُه فيما يأمر به وينهى بالمعروف، وليس من شروط ثبوت الإمامة والطّاعة أن يكون كلُّ مسلم من جملة المبايعين له، وإنّما تلزم بيعةُ أهل الحلّ والعقد كلَّ واحدٍ ممّن تَنْفُذُ فيه أوامره ونواهيه؛لأنّ المسلمين أمّةٌ واحدةٌ وجسدٌ واحدٌ، تجمعهم الأخوّة الإيمانية وتربطهم العقيدة الإسلاميّة، وهم في الحقوق والحرمات سواءٌ؛ لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، يَرُدُّ مُشِدُّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ، وَمُتَسَرِّيهِمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ، لاَ يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلاَ ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ»(1)، قال الشّوكانيّ -رحمه الله-: «طريقها أن يجتمع جماعةٌ من أهل الحلّ والعقد فيعقدوا له البيعة ويقبل ذلك، سواء تقدّم منه الطّلب لذلك أم لا، لكنّه إذا تقدّم منه الطّلب فقد وقع النّهي الثّابت عنه صلّى الله عليه وسلّم عن طلب الإمارة(2)، فإذا بويع بعد هذا الطّلب انعقدت ولايتُه وإن أَثِمَ بالطّلب، هكذا ينبغي أن يقال على مقتضى ما تدلّ عليه السّنّة المطهّرة، ... والحاصل أنّ المعتبر هو وقوع البيعة له من أهل الحلّ والعقد؛ فإنّها هي الأمر الذي يجب بعده الطّاعةُ ويَثْبُتُ به الولاية وتحرم معه المخالفة، وقد قامت على ذلك الأدلّة وثبتت به الحجّة ... قد أغنى الله عن هذا النّهوض وتجشُّم السّفر وقطع المفاوز ببيعة من بايع الإمامَ من أهل الحلّ والعقد؛ فإنّها قد ثبتت إمامته بذلك ووجبت على المسلمين طاعتُه، وليس من شرط ثبوت الإمامة أن يبايعه كلّ من يصلح للمبايعة، ولا من شرط الطّاعة على الرّجل أن يكون من جملة المبايعين؛ فإنّ هذا الاشتراط في الأمرين مردودٌ بإجماع المسلمين: أوّلهم وآخرهم، سابقهم ولاحقهم»(3).

      وبهذا الطّريق تمّت مبايعة أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه، فثبتت خلافته بالبيعة والاختيار(4) في سقيفة بني ساعدة، قال القرطبيّ -رحمه الله-: «وأجمعت الصّحابة على تقديم الصّدّيق بعد اختلافٍ وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة في التّعيين»(5).

-الطّريق الثّاني: ثبوت البيعة بتعيين وليّ العهد:

      وذلك بأن يعهد وليّ الأمر إلى من يراه أقدر على مهمّة حماية الدّين وسياسة الدّنيا، فيخلفه مِن بعدِه؛ فإنّ بيعته على الإمامة تلزم بعهدِ مَن قبله، كمثل ما وقع مِن عهدِ أبي بكرٍ رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه، فإنّ الصّدّيق رضي الله عنه لمّا حضرتْه الوفاة عَهِد إلى عمر رضي الله عنه في الإمامة، ولم ينكر ذلك الصّحابة رضي الله عنهم، وقد اتّفقت الأمّة على انعقاد الإمامة بولاية العهد، وقد عَهِدَ معاوية رضي الله عنه إلى ابنه يزيد، وغيرهم، ويدلّ عليه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعطى الرّاية يوم مؤتة زيد بن حارثة وقال: «فَإِنْ قُتِلَ زَيْدٌ أَوِ اسْتُشْهِدَ فَأَمِيرُكُمْ جَعْفَرٌ، فَإِنْ قُتِلَ أَوِ اسْتُشْهِدَ فَأَمِيرُكُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ»(6)، فاستُشهدوا جميعًا، ثمّ أخذها خالد بن الوليد ولم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تقدّم إليه في ذلك، والحديث دلّ على وجوب نصب الإمام والاستخلاف، قال الخطّابيّ: «فالاستخلاف سنّةٌ اتّفق عليها الملأ من الصّحابة، وهو اتّفاق الأمّة لم يخالف فيه إلاّ الخوارج والمارقة الذين شقّوا العصا وخلعوا ربقة الطّاعة»(7).

-الطّريق الثّالث: ثبوت البيعة بتعيين جماعة تختار وليّ العهد

      وذلك بأن يعهد وليّ الأمر الأوّل إلى جماعةٍ معدودةٍ تتوافّر فيها شروط الإمامة العظمى، لتقوم باختيار وليّ العهد المناسب فيما بينهم يتوالَوْن عليه ويبايعونه، كمثل ما فعل عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، حيث عَهِدَ إلى نفرٍ من أهل الشّورى لاختيار واحد منهم، قال الخطّابيّ -رحمه الله-: «ثمّ إنّ عمر لم يُهملِ الأمر ولم يُبطلِ الاستخلاف، ولكنْ جعله شورى في قوم معدودين لا يعدوهم، فكلّ من أقام بها كان رضًا ولها أهلاً، فاختاروا عثمان وعقدوا له البيعة»(8)، ثمّ لمّا استُشهد عثمان رضي الله عنه بايعوا عليًّا رضي الله عنه.

-الطّريق الرّابع: ثبوت البيعة بالقوّة والغلبة والقهر

      إذا غلب على النّاس حاكمٌ بالقوّة والسّيف حتّى أذعنوا له واستقرّ له الأمر في الحكم وتمّ له التّمكين، صار المتغلّبُ إمامًا للمسلمين وإن لم يستجمع شروط الإمامة، وأحكامُه نافذةٌ، بل تجب طاعته في المعروف وتحرم منازعته ومعصيته والخروج عليه قولاً واحدًا عند أهل السّنّة؛ ذلك لأنّ طاعته خيرٌ من الخروج عليه، لِما في ذلك من حقن الدّماء وتسكين الدّهماء، ولِما في الخروج عليه من شقّ عصا المسلمين وإراقة دمائهم، وذهاب أموالهم وتسلُّطِ أعداء الإسلام عليهم، قال الإمام أحمد -رحمه الله-: «ومن خرج على إمامٍ من أئمّة المسلمين وقد كان النّاس اجتمعوا عليه وأقرّوا له بالخلافة بأيّ وجهٍ كان بالرّضا أو الغلبة؛ فقد شقّ هذا الخارج عصا المسلمين، وخالف الآثار عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإن مات الخارج مات ميتة جاهليّة، ولا يحلّ قتال السّلطان ولا الخروج عليه لأحدٍ من النّاس، فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السّنّة والطّريق»(9).

      وقد حكى الإجماع على وجوب طاعة الحاكم المتغلّب الحافظ ابن حجر في «الفتح»(10)، والشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب في «الدّرر السّنيّة»(11).

      قلت: ومن الإمامة التي انعقدت بالغلبة والقوّة ولاية عبد الملك بن مروان، حيث تغلّب على النّاس بسيفه واستتبّ له الأمر في الحكم، وصار إمامًا حاكمًا بالغلبة، ومن ذلك ولاية بني أميّة في الأندلس: انعقدت لهم بالاستيلاء والغلبة، مع أنّ الخلافة قائمة في بغداد للعبّاسيّين.

      فهذه هي الطّرق التي تثبت بها الإمامة الكبرى فتنعقد بالاختيار والاستخلاف سواء بتعيين وليِّ عهدٍ مستخلَفٍ أو بتعيين جماعةٍ تختار من بينها وليّ عهد، وهما طريقان شرعيّان متّفقٌ عليهما، فإذا بايعه أهل الحلّ والعقد بالاختيار لزمت بيعتُهم سائرَ من كان تحت ولايته، كما تلزمهم البيعةُ الحاصلة بالاستخلاف، وكذا المنعقدة عن طريق القهر والغلبة، فالبيعة حاصلةٌ على كلّ أهل القطر الذي تولّى فيه الحاكم المستخلَف أو المتغلّب ممّن يدخلون تحت ولايته أو سلطانه.

الهوامش:

1- أخرجه أبو داود في «الجهاد» باب في السريّة تردّ على أهل العسكر (2751) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه، وصحّحه الألباني في «إرواء الغليل» (7/ 266) رقم (2208).

2- من حديث عبد الرحمن بن سمرة قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لاَ تَسْأَلِ الإِمَارَةَ؛ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، ...» (أخرجه البخاري في «الأحكام» باب من لم يسأل الإمارة أعانه الله عليها (7146)، ومسلم في «الأيمان» (1652)).

3- «السيل الجرّار» للشوكاني (4/ 511-513).

4- ومن العلماء من يرى أنّ خلافته ثبتت بالنصّ والإشارة من النبي صلّى الله عليه وسلّم (انظر: «شرح العقيدة الطحاويّة» لابن أبي العزّ الحنفي (533)).

5- «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (1/ 264).

6- أخرجه أحمد في «مسنده» (1/ 204)، من حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما. وصحّحه أحمد شاكر في تحقيقه ل«مسند أحمد» (3/ 192)، والألباني في «أحكام الجنائز» (209).

7- «معالم السنن» للخطّابي (مع سنن أبي داود) (3/ 351).

8- المصدر السابق، الجزء والصفحة نفسها.

9- «المسائل والرسائل» للأحمدي (2/ 5).

10- «فتح الباري» لابن حجر (13/ 7) وقد حكاه عن ابن بطّال، رحمه الله.

11- «الدرر السنيّة في الأجوبة النجديّة» (7/ 239).

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك