تنظيم السلوك الاجتماعي من خلال سورة النور (2) مراعاة الخصوصية الفردية والأسرية
سورة النور سورة مدنية، تناولت كثيراً من الأحكام الشرعية التي تتعلق بسلوك المسلم، سواء كان سلبياً أم إيجابياً، ومن بين الأحكام التي تناولتها مراعاة الخصوصية الفردية والأسرية .
انتهاك الخصوصية
لا شك أن انتهاك الخصوصية يدل على مستوى عال من تدني الوعي الاجتماعي، وكثير من الناس يقوده الفضول إلى جعل خصوصية الآخرين جزءًا من اهتماماته الثقافية، وأحيانا الدينية، وقد وسع الشرع مفهوم الخصوصية فلم يقصرها على الإنسان وحده، بل جعلها تشمل أشياءه وما يحيط به، وقدم كثيرا من الإرشادات الشرعة التي تدل على مراعاتها، وفي أكثر من جانب من جوانب الحياة. من هذه الخصوصيات:
خصوصية البيت
فقد تحدثت السورة عن مراعاة هذه الخصوصية في جوانب متعددة، منها حكم دخول البيت وأوقات الزيارة وحكم الأكل فيه، وما هو حرج من ذلك وما ليس بحرج؛ فشرعت الاستئذان أولا عند إرادة الدخول؛ لما في الدخول بدونه من انتهاك لحرمة الخصوصية، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النور: 27).
وسبب نزول هذه الآية ما رواه الطبري وغيره عن عدي بن ثابت أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله، إني أكون في بيتي على حال لا أحبّ أن يراني عليها أحد، لا والد ولا ولد، فيأتي الأب فيدخل عليّ، وإنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي وأنا على تلك الحال، فكيف أصنع؟ فنزلت الآية. فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: يا رسول الله، أفرأيت الخانات والمساكن في طرق الشام ليس فيها ساكن، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} (النور: 29).
غاية الاستئناس
ومد الله -سبحانه وتعالى- التحريم في دخول بيت ليس هو بيتك إلى غايةٍ هي الاستئناس، وهو الاستئذان، قال ابن وهب: قال مالك: الاستئناس فيما نرى -والله أعلم- الاستئذان، وكذا في قراءة أبيّ وابن عباس وسعيد بن جبير: {حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا}. وقيل: إن معنى: {تَسْتَأْنِسُوا}: تستعلموا، أي: تستعلموا من في البيت، قال مجاهد: بالتنحنح أو بأي وجه أمكن، ويتأنى قدر ما يعلم أنه قد شعر به، ويدخل إثر ذلك.
السنّة في الاستئذان
والسنّة في الاستئذان أن يكون ثلاث مرات، قال مالك: الاستئذان ثلاث، لا أحبّ أن يزيد أحد عليها، إلا من علم أنه لم يُسمع، فلا أرى بأسًا أن يزيد إذا استيقن أنه لم يسمع. وصورة الاستئذان أن يقول الرجل: السلامُ عليكم، أأدخل؟ فإن أذن له دخل، وإن أمر بالرجوع انصرف، وإن سكت عنه استأذن ثلاثًا، ثم ينصرف من بعد الثلاث.
تَوَعُّدٌ لِأَهْلِ التَّجَسُّسِ
وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} تَوَعُّدٌ لِأَهْلِ التَّجَسُّسِ عَلَى الْبُيُوتِ وَطَلَبِ الدُّخُولِ عَلَى غَفْلَةٍ لِلْمَعَاصِي وَالنَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ وَلَا يَجُوزُ، ولغيرهم ممن يقع في محظور، وقد عدَّ العلماء طلب الاستئذان واجبًا، والدخول بدونه محرَّمًا، وهذا محلُّه ما لم يكن البيت للشخص المستأذِن، فإذا كان له فإنه نُدب له أن يستأذن على أمه وأخته وكل من لم تزل عنه الكلفة معه في جميع الأحوال، بخلاف الزوجة، وهذا أدب رفيع وإرشاد قرآني بديع، سببه مراعاة خصوصيات الناس وعدم الاطلاع على عوراتهم؛ ولذلك أذن الشرع في البيوت التي لم تسكن؛ لأن العلة هي حرمة الاطلاع على العورات وانتهاك الخصوصيات، فإذا زالت العلة زال الحكم؛ ولذا قال سبحانه بعدها: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُون} (النور: 29).
تعليق الدخول بالمتاع
وتعليق الدخول بالمتاع - وهو المنفعة كما هو قول المحققين من أهل التفسير- جعل الحكم عامّا في كل ما للإنسان فيه منفعة، ويتردد عليه باعتبار هذا المعنى، وما هو مشترك مما يعسر طلب الاستئذان فيه كالمدارس والجامعات والفنادق وغيرها مما لا تتحقَّق فيه خصوصية لفرد بعينه.
احترام الخصوصية في الزيارة
لم يمنع الشرع زيارة الناس في بيوتهم كما هو حال قيم المجتمعات المتفككة التي تندر فيها المروءة، ويرتفع منسوب الخصوصية والمنفعة فيها على حساب الإحسان، وإنما رشَّد الإسلام الزيارة، وجعل لها ضوابط وأوقاتا لكي لا يقع الحرج على الناس بسبب الفضوليين الذين لا يعرفون الخطوط الحمراء في العلاقات الاجتماعية، فكانت هذه السورة للسلف في آداب الزيارة أولا، قال -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاء ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم} (النور: 58).
التردّد على البيت
والآية تتحدث عمن يكثر منه التردّد على البيت من الإيماء والعبيد ومن في معناهم من العمال، وترشد إلى أن ثمة أوقاتًا مخصوصةً ينبغي مراعاتها من الجميع ذكورا وإناثا كما هو قول أهل التحقيق من المفسرين.
وهذه الأوقات يستأذن فيها من كان من المفترض أن يرفع عنهم الحرج في الدخول دون إذن، وهم العمال والعبيد ذكورا وإناثا، ومن لم يبلغ الحلم من الأحرار، لكنه يميز ويستطيع وصف ما رأى، فإنه يستأذن كذلك.
وإنما خصَّ هذه الأوقات الثلاثة لأنها أوقات خلوات الرجل مع أهله؛ ولأنه ربما بدَا فيها عند خلوته ما يكره أن يرى من جسده، فقد روي أن عمر بن الخطاب كان في منزله وقت القائلة، فأنفذ إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصبي من أولاد الأنصار يقال له: مدلج، فدخل على عمر بغير إذن، وكان نائمًا، فاستيقظ عمر بسرعة، فانكشف شيء من جسده، فنظر إليه الغلام، فحزن عمر فقال: وددت لو أن الله بفضله نهى أبناءنا عن الدخول علينا في هذه الساعات إلا بإذننا، ثم انطلق إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجد هذه الآية قد أنزلت، فخرَّ ساجدًا شكرًا لله.
حكم استئذان البالغ
ثم بين حكم استئذان البالغ وأنه عام في جميع الأوقات، فقال تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم} (النور: 59). أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: بلغنا أن رجلا من الأنصار وامرأته أسماء بنت مرشدة صنعا للنبي - صلى الله عليه وسلم - طعاما، فقالت أسماء: يا رسول الله، ما أقبح هذا! إنه ليدخل على المرأة وزوجها -وهما في ثوب واحد- غلامهما بغير إذن، فأنزل الله في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} من العبيد والإماء {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ} قال: من أحراركم من الرجال والنساء.
استئذان الأقارب
قال ابن كثير -رحمه الله-: «هذه الآيات الكريمة اشتملت على استئذان الأقارب بعضهم على بعض، وما تقدم في أول السورة فهو استئذان الأجانب بعضهم على بعض؛ فأمر الله -تعالى- المؤمنين أن يستأذنهم خدمهم مما ملكت أيمانهم وأطفالهم الذين لم يبلغوا الحلم منهم في ثلاثة أحوال: الأول من قبل صلاة الغداة؛ لأن الناس إذ ذاك يكونون نياما في فرشهم، {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} أي: في وقت القيلولة؛ لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله، {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} لأنه وقت النوم، فيؤمر الخدم والأطفال ألا يهجموا على أهل البيت في هذه الأحوال؛ لما يخشى من أن يكون الرجل على أهله، ونحو ذلك من الأعمال».
وقَوْلُهُ -تَعَالَى-: {وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} أَيْ: الاحتلام، يريد الأحرار الذين بلغوا، {فَلْيَسْتَأْذِنُوا} أي: يستأذنوا في جميع الأوقات في الدخول عليكم، {كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من الأحرار والكبار. وقيل: يعني الذين كانوا مع إبراهيم وموسى وعيسى.
وقيل: إنه إحالة إلى الآية قبل، قال الطاهر بن عاشور: «{وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} في موقع التصريح بمفهوم الصفة في قوله: {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} ليعلم أن الأطفال إذا بلغوا الحلم تغير حكمهم في الاستئذان إلى حكم استئذان الرجال الذي في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} الآيات، فالمراد بقوله: {الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} فيما ذكر من الآية السابقة، أو الذين كانوا يستأذنون من قبلهم، وهم كانوا رجالا قبل أن يبلغ أولئك الأطفال مبلغ الرجال».
اهتمام قرآني
فهذا الاهتمام من القرآن باحترام الخصوصية الأسرية المتمثلة في ترشيد الزيارة، وبيان مَن يحقّ له الدخول ومن لا يحق، ومتى يكون ذلك؟ كل هذا دليل على أهمية السلوك الاجتماعي الإيجابي وخطر السلوك السلبي؛ فلو لم تكن المسألة ذات أهمية ما ذكرها القرآن، ولم تكتف السورة بهذه الخصوصية الأسرية، بل تناولت جانبًا آخر مُهِمًّا، وهو خصوصية المرأة في نفسها، ومتى تكون خصوصية؟ ومتى يفتح الباب من أجل رفع الحرج؟ وهو ما تناولته الآيات من حكم إبداء الزينة، ومن يحق له أن يراها ومن لا.
لاتوجد تعليقات