تنظيم السلوك الاجتماعي من خلال سورة النور (3) زينة المرأة بالنسبة للرجال
سورة النور سورة مدنية، تناولت كثيرًا من الأحكام الشرعية التي تتعلق بسلوك المسلم، سواء كان سلبيًّا أم إيجابيًّا، ومن بين الأحكام التي تناولتها، سلوكُ المسلم تجاه زوجته فيما يعرض له من شكّ فيها، وكيفية معالجة ذلك الشكِّ في حال انتقل من وهم إلى حقيقة، ومن حقيقة إلى قضية قضائية، وهو ما يعرف باللّعان، ثم تناولت أحكام القذف، وبينت حكم القاذف والمقذوف، وكيفية تناول الأخبار التي تتعلق بالشأن العام أو أعراض الناس، كما تناولت حكم دخول البيوت وآداب دخولها؛ من استئذان وغيره، ومراعاة الأوقات المناسبة لذلك، ومتى تزول الكلفة عن الإنسان؟ ومتى ينبغي أن يراعي الخصوصية المنزلية للآخرين؟ ثم تناولت قضية محورية مهمة تتعلق بزوال الكلفة عن المرأة، ومتى يكون ذلك؟ ومتى يجب عليها أن تراعي الحشمة والحياء في حال وجود الآخرين بجانبها؟ ثم علَّقت على السلوك الشرعي المناسب للمسلم تجاه الطرف الآخر من المجتمع رجالا أو نساء، وبيَّنت أنَّ مبنى ذلك على الاحترام ومراعاة شرع الله في حقِّ الآخرين، ثم ختمت السورة بآداب المسلم في مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي المجالس التي تطبعها الجدية والاحترام، واليوم نتكلم عن تناول السورة لحكم زينة المرأة بالنسبة للرجال.
من المعلوم أن التحفّظ في اللباس بالنسبة للمرأة يصعب في كل وقت ومع كل أحد، لكنه في المقابل مهمّ؛ لما يترتب عليه من انتهاك الخصوصية النسوية، وما يترتب على ذلك من آثار كارثية على المجتمع، فقد بيّنت هذه السورة أحكام هذه الخصوصية التي تختلف بحسب النساء في أنفسهن، كما أنها تختلف بحسب الرجال كذلك وعلاقتهم بالمرأة، قال -سبحانه-: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: 31).
غض البصر وإخفاء الزينة
لسنا هنا بصدَد شرح معنى الزينة وما يدخل في معناها وما يخرج منها، وقد راعى الإسلام في الأمر بغض البصر وإخفاء الزينة جانبًا مهمًّا من حياة الناس وهو الشهوة؛ إذ هي الدافع الحقيقي لكثير من تصرفات الناس وسلوكهم السيئ تجاه الآخرين، فحسمت الشريعة هذا الباب وأغلقت ذرائعه، ونظرا لما يترتب على هذا التحفظ من حرج؛ فقد استثنت الشريعة كل ما يوجب الحرج ويوقع في المشقة؛ فاستثنت الأقارب والعبيد ومن ليس له رغبة في النساء من الرجال أو الأطفال الذين لا يميزون العورات، وهذا التسامح من الشريعة يعدّ قمة في تفهّم الحاجات الاجتماعية للمجتمعات، كما أن ترشيدها للعلاقة بين الرجال والنساء يعدّ سمة من سمات تنظيم السلوك الاجتماعي؛ لأنه إذا لم تضبط علاقات الأفراد بعضهم ببعض -ولاسيما بين الرجال والنساء- فإن المجتمع يبقى في أمر مريج.
ولا يخفى على القارئ الكريم أن هذه الآيات كانت تتنزل على المجتمع الأول، وهو مجتمع جمع بين معرفة الجاهلية الأولى والإسلام كما أراده الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فكان الصحابة نموذجا عمليًّا لتطبيق هذه الآيات في صورتيها المثالية والواقعية، والناس تبع لهم.
دخول البيت والأكل فيه
ولم تقف السورة عند هذا الحدّ، فدخول البيت والأكل فيه يحتاج أيضًا تنظيمًا؛ لأنه قد يتعارض مع هذه الأوامر؛ لأن البيت إذا أُذن فيه يدخله بطبيعة الحال من ليس من هؤلاء الذين رُفِعَ عنهم الحرج، ففتحت الشريعة ذريعة الأكل والدخول مع الضوابط التي تراعي معنى الإحسان والتواصل بين أطياف المجتمع، لكنها لا تتسامح فيما يمكن أن يجر إلى معصية أو ضرر أخلاقي.
فقد تكلّمت الآية عن القواعد من النساء، وعن حكم زينتهنّ وإبدائها في حالة معينة، ثم عقبت ذلك بالحديث عن الزوار للمنزل وحكمهم بحسب أحوالهم، وكان الناس بعد نزول قول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (النساء: 29)، قد تحرجوا من مؤاكلة بعضهم بعضا، حتى صار الرجل يدعو صاحبه للطعام فيقول له: إني لأتجنح -يعنى: أتحرج-، المساكين أولى به مني، فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} (النور: 61).
قيل: إن الأنصار كانوا يتحرجون أن يؤاكلوا هؤلاء إذا دعوا إلى الطعام، فيقولون: الأعمى لا يبصر أطيب الطعام، والأعرج لا يستطيع الزحام عند الطعام، والمريض يضعف عن مشاركة الصحيح في الطعام. وكانوا يقولون: طعامهم مفرد، ويرون أنه أفضل من أن يكونوا شركاء، فأنزل الله هذه الآية فيهم، ورفع الحرج عنهم في مؤاكلتهم. قاله ابن عباس والضحاك والكلبي. قوله -تعالى-: {وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ}. فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: من أموال عيالكم وأزواجكم؛ لأنهم في بيته.
الثاني: من بيوت أولادكم، فنسب بيوت الأولاد إلى بيوت أنفسهم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أَنتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ»؛ ولذلك لم يذكر الله بيوت الأبناء حين ذكر بيوت الآباء والأقارب اكتفاء بهذا الذكر.
الثالث: يعني بها البيوت التي هم ساكنوها؛ خدمة لأهلها واتصالًا بأربابها كالأهل والخدم.
{أَوْ بُيُوتِ ءَابَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ}، فأباح الأكل من بيوت هؤلاء لمكان النسب من غير استئذانهم في الأكل إذا كان الطعام مبذولًا، فإن كان محروزًا دونهم لم يكن لهم هتك حرزه. ولا يجوز أن يتجاوزوا الأكل إلى الادخار، ولا إلى ما ليس بمأكول وإن كان غير محروز عنهم إلا بإذن منهم. قوله -تعالى-: {أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ}.
فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه عَنَى به وكيل الرجل وَقيِّمه في ضيعته، يجوز له أن يأكل مما يقوم عليه من ثمار ضيعته. قاله ابن عباس. والثاني: أنه أراد منزل الرجل نفسه يأكل مما اذخره. قاله قتادة. والثالث: أنه عنى به أكل السيد من منزل عبده وماله؛ لأن مال العبد لسيده. حكاه ابن عيسى. {أَوْ صَدِيقِكُمْ} فيه قولان: أحدهما: أنه يأكل من بيت صديقه في الوليمة دون غيرها.
الثاني: أنه يأكل من منزل صديقه في الوليمة وغيرها إذا كان الطعام حاضرًا غير محرز.
ومحل الشاهد من كل هذا تناول الآيات لسلوك الفرد في البيت بالتفصيل والدخول في حياته اليومية من أكل وشرب؛ مما يدل على هيمنة الشرع على حياة الفرد وتنظيمه لسلوكه الخاص والعام.
العلاقة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - والأدب في مجلسه
ونختم هذا المبحث بالكلام عن العلاقة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - والأدب في مجلسه؛ إذ ذلك هو أس الشرع، وعليه تبنى جميع العلاقات، فقد بينت هذه السورة أن الإيمان محصور في طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - والاستجابة لأمره والرضا بحكمه: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} (النور: 51).
الأدب في مجلسه - صلى الله عليه وسلم -
وبين بعد ذلك الأدب في مجلسه - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم} (النور: 62). وفي الأخبار: أن الرجل من المسلمين كان إذا كان مع النبي في أمر، وأراد الاستئذان لحاجة له، قام وأشار إلى النبي كأنه يستأذن، فيشير إليه النبي أذنت لك. وقد قالوا: إنما يحتاج إلى الاستئذان إذا لم يكن هناك سبب يمنعه من المقام، فأما إذا عرض سبب يمنعه من المقام مثل امرأة تكون في المسجد فتحيض، أو رجل يجنب، أو عرض له مرض وما أشبه، فلا يحتاج إلى الاستئذان.
روي أن عمر استأذن رسول الله في غزوة تبوك أن يرجع إلى أهله فقال: «ارجع فلست بمنافق ولا مرتاب» يعرضه بالمنافقين. وقيل: إن هذه الآية ناسخة لقوله -تعالى- في سورة التوبة: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} (التوبة: 43).
وَقَوله: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} أَي: أَمرهم، وَقَوله: {فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} مَعْنَاهُ: إِن شِئْت فَأذن، وَإِن شِئْت فَلَا تَأذن. وهذا السلوك يأمر به القرآن مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو عام في كل من كان في أمر عام من أمور المسلمين، وقد خص النبي - صلى الله عليه وسلم - بمزيد من التوقير والاحترام لمقام النبوة، ويعد التأكيد على السلوك الأخلاقي معه تجسيدًا لمعنى الاتباع الشرعي وحدوده.
نبذ لطيفة
وفي الختام، هذه نبذة لطيفة انتخبناها للقارئ الكريم، لم نلتزم فيها ترتيب الآيات كما في السورة، وإنما جمعنا بين النظائر في الأحكام، وقد تناولت هذه السورة كما بيَّنَّا السلوك الاجتماعي بالتفصيل، ووجهت المجتمع الأول نحو المثال الأعلى في السلوك الفردي والجماعي، كما أكدت على احترام الخصوصية من طرف الآخرين؛ لأن ذوبانها يفقد الإنسان إنسانيته، ورشّدت الخصوصية حتى لا تطغى على حساب المعاني الأخرى الجميلة من تواصل وتعاون على البر والتقوى. وقد جمعت هذه السورة بين السلوك المثالي والمنطقي، كما وضعت ضوابط للعلاقات الاجتماعية تضمن سيرها باستقامة دون تبعات سيئة، ويلاحظ تفعيل سلطة الضمير في السلوك الاجتماعي أكثر من إعمال سيف القضاء والعقوبة، فلم تذكر الشريعة عقوبة دنيوية في السلوكات إلا في القذف والزنى، وتركت الباقي للأخرى، وليس هذا تهاونا؛ لأن العقوبة الأخروية في نظر الشارع أقوى من الدنيوية، فالمؤمن لا يتخذها ظهريًّا، وإنما يحتاج المؤمن أن يتمثل الأخلاق سلوكًا وقناعةً، لا خوفًا ولا طمعًا، أما الزنى فلِقُوَّة دافع الشهوة لا بدَّ من عقوبة تكون بمثابة الإجراء الوقائي منه.
لاتوجد تعليقات