تفسير السلف للقرآن الكريم .. أهميته وخصائصه
في ضوء توالي الهجمات المتسارعة لفرض الغرب سيطرته علينا أخلاقيًّا وسلوكيًّا وفكريًّا، وإنشاء جيل جديد بعيد عن أسلافه في تدينه وتمسكه بالفهم الصحيح لهذا الدين، يأتي في السياق نفسه مَن ينتسب إليه ليسير في طريق الغواية؛ ليبعد الناس عن أهم مصادر التشريع، بل أساسه وينبوعه؛ ليضل الناس بتفاسير عصرية لنصوص القرآن الكريم، ضاربًا عُرض الحائط بتفاسير السلف وإجماعاتهم وقواعدهم ومناهجهم؛ لينتهي به الأمر إلى الانحراف عن فهم كتاب الله، والانحراف عن دينه القويم ونهجه المستقيم.
فمنهج السلف في التفسير له أهمية كبرى في فهم كتاب رب العالمين؛ فهو إما تفسير من رب العالمين، أو من رسوله الأمين، أو تفسير صحابي شهد التنزيل وعرف التأويل، أو تفسير تابعي نهل من مدرسة النبوة عن الصحابة المفسرين، وقد خصهم الله -تعالى- بصدق الضمائر، ونفاذ البصائر، وصحة الدين، ووثاقة اليقين؛ فلم يكونوا ليروموا مرامًا إلا سهَّل لهم ما تَوعَّر، ويسَّر عليهم ما تعسَّر، وسما بهم ما هو أقصى منه مرمى وأبعد مدى.
قال ابن أبي حاتم: «فإن قيل: كيف السبيل إلى معرفة ما ذكرت من معاني كتاب الله -عزوجل- ومعالم دينه؟ قيل: بالآثار الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن أصحابه النجباء الألباء الذين شهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل -رضي الله تعالى- عنهم.
فإن قيل: فبماذا تعرف الآثار الصحيحة والسقيمة؟ قيل: بنقد العلماء الجهابذة الذين خصهم الله -عز وجل- بهذه الفضيلة، ورزقهم هذه المعرفة في كل دهر وزمان.
تاريخ نشأة الفرق
والمتأمل في تاريخ نشأة الفرق والاختلاف في الأمة، يجد أن الدخلاء على الإسلام من أصحاب الثقافات اليونانية وغيرها، كان لهم دور في تأويل أي الكتاب لموافقة آرائهم الفاسدة، ويمكننا أن نقول بيقين: إن البعد عن منهج السلف في التعامل مع نصوص الوحيين، يؤدِّي حتمًا إلى ظهور الأقوال الضعيفة والآراء الشاذة والباطلة.
يقول ابن تيمية: «إن السلف كان اعتصامهم بالقرآن والإيمان؛ فلما حدث في الأمة ما حدث من التفرق والاختلاف، صار أهل التفرق والاختلاف شيعًا، صار هؤلاء عمدتهم في الباطن ليست على القرآن والإيمان، ولكن على أصول ابتدعها شيوخهم، عليها يعتمدون في التوحيد والصفات والقدر، والإيمان بالرسول وغير ذلك، ثم ما ظنوا أنه يوافقها من القرآن احتجوا به، وما خالفها تأولوه؛ فلهذا نجدهم إذا احتجوا بالقرآن والحديث لم يعتنوا بتحرير دلالتهما، ولم يستقصوا ما في القرآن من ذلك المعنى؛ إذ كان اعتمادهم في الأمر نفسه على ذلك، والآيات التي تخالفهم يشرعون في تأويلها شروع من قصد ردها كيف أمكن، ليس مقصوده أن يفهم مراد الرسول، بل ليدفع منازعه عن الاحتجاج بها». ومن هنا ينبغي علينا أن نبرز أهمية تفسير السلف، وأهم خصائصه؛ ليكون حاجزًا منيعًا ضد أهل الأهواء ومخططاتهم في إفساد الأجيال، وإبعادهم عن منهج رب العالمين:
أهمية تفسير السلف
تكمن أهمية تفسير السلف الصالح في كونهم خير هذه الأمة؛ فالصحابة -رضي الله عنهم- خير أتباع الأنبياء، وهم أفضل من تمثَّل الإسلام واقعًا، يقول ابن تيمية: «من المعلوم بالضرورة لمن تدبّر الكتاب والسنة، وما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف، أن خير قرون هذه الأمة في الأعمال والأقوال والاعتقاد وغيرها من كل فضيلة، هو القرن الأول، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة، من علم، وعمل، وإيمان، وعقل، ودين، وبيان، وعبادة، وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل، هذا لا يدفعه إلا من كابر المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وأضله الله على علم، وما أحسن ما قال الشافعي -رحمه الله- في رسالته: هم فوقنا في كل علم وعقل ودين وفضل، وكل سبب ينال به علم أو يدرك به هدى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا».
أهم خصائص تفسير السلف
تفسير السلف للقرآن الكريم له عديد من الخصائص أهمها ما يلي:
حياة السَّلف في عصر النبوة
كان لوجود الصحابة في العصر النبوي أثره البالغ في فهم كلام الله -تعالى-؛ إذ كان الرسول صلى الله عليه وسلم بين أيديهم، يبين لهم ما يحتاجون إليه من المعاني، ويوضح ما أشكل عليهم، كما يتيح لهم الاجتهاد في فهمه؛ فيقرُّ مصيبهم على اجتهاده، ويبين لمخطئهم وجه خطئه، وقد حرص التابعون على تلقي التفسير عن الصحابة -رضوان الله عليهم- كما تلقوا عنهم علم السنة، قال ابن أبي مليكة: «رأيت مجاهدًا يسأل ابن عباسٍ عن تفسير القرآن ومعه ألواحه؛ فيقول له ابن عباسٍ: اكتب، قال: حتى سأله عن التفسير كله»، وهذا زر بن حبيش يقول: «وفدت في خلافة عثمان بن عفان، وإنما حملني على الوفادة لَقْيُ أبي بن كعب وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ».
وقد كان من أصحاب ابن عباس الذين يقولون بقوله، ويفتون، ويذهبون مذهبه: سعيد بن جبير، وجابر بن زيد، وطاوس، ومجاهد، وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة. ومن أصحاب ابن مسعود الذين يفتون بفتواه ويقرؤون بقراءته: علقمة بن قيس، والأسود بن يزيد، ومسروق، وعبيدة السلماني، والحارث بن قيس، وعمرو بن شرحبيل.
هذا بالنسبة لابن عباس وابن مسعود وهما مكثران، وهكذا الحال بالنسبة للآخرين من الصحابة المذكورين؛ فلهم تلاميذ سطرت أسماؤهم في تراجم الصحابة ومسانيدهم.
معايشة الصحابة للأحداث
معاينة الصحابة لكثير من الوقائع ومعايشتهم لكثير من الأحداث التي نزل فيها القرآن، لا شك أن الصحابة كانوا أعلم الناس بالأحداث، والأحوال التي واكبت التنزيل؛ لكون تلك الآيات نزلت في البيئة، والمجتمع الذي عاشوا فيه، وهذا يعطي التصور الصحيح لفهم الآية، الذي غالبًا ما يكون الخطأ في فهمها ناشئًا عن عدم إحاطة المفسر ودرايته بأحوال القضية التي نزلت فيها وملابساتها؛ فهم أعلم الناس بأسباب النزول؛ فيمن نزلت؟ ولماذا نزلت؟ ومتى نزلت؟ وأين نزلت؟
وقد ذكر الشاطبي من أسباب ترجيح قولهم: مباشرتهم للوقائع والنوازل، وتنزيل الوحي بالكتاب والسنة؛ فهم أقعد في فهم القرائن الحالية، وأعرف بأسباب التنزيل، ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب، وقد شاهدوا من أسباب التكاليف وقرائن أحوالها ما لم يشاهده من بعدهم، ونقل قرائن الأحوال على ما هي عليه كالمتعذِّر؛ فلابد من القول بأن فهمهم في الشريعة أتم وأحرى بالتقديم.
معرفتهم بلغة العرب وأساليبها
نزل القرآن الكريم بلسان العرب، جاريًا على معهودهم في الكلام، وعادتهم في الخطاب؛ فكل من كان من لسان العرب متمكنًا؛ كان للقرآن أشد فهمًا وأحسن إدراكًا، ولا يعلم أحد أفصح لسانًا وأسد بيانًا، وأقوم خطابًا من أهل القرون الأولى المفضلة، وأولاهم في هذا الفضل والسبق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلا يكون في الأمة من بعد القرون الأولى أحد أفصح منهم لسانًا؛ فكل من جاء بعدهم فهو دونهم في الفصاحة والبيان والفهم والإدراك.
ويقرر الشاطبي -رحمه الله- سبب ترجيح أقوال الصحابة وفهمهم على غيرهم بقوله: «معرفتهم باللسان العربي؛ فإنهم عرب فصحاء، لم تتغير ألسنتهم، ولم تنزل عن رتبتها العليا فصاحتهم، فهم أعرف في فهم الكتاب والسنة من غيرهم؛ فإذا جاء عنهم قول أو عمل واقع موقع البيان صح اعتماده من هذه الجهة». والمـتأمل في تفاسير السلف يجدها جارية على وفق لغة العرب، قال الشاطبي: «وما نقل من فهم السلف الصالح في القرآن؛ فإنه كله جارٍ على ما تقتضي به العربية، وما تدل عليه الأدلة الشرعية”.
السلامة من اتباع الهوى
الوفاق العقدي والسلامة من اتباع الهوى والتعصبات المذهبية: لقد ابتليت الأمة في العصور المتأخرة بكثرة الاختلاف في المعتقدات، والتفرق منشؤه كثرة الجهل وسوء القصد، وأما السلف؛ فقد كانوا أبرّ قلوبًا، وأعمق علمًا، وأقل تكلّفًا، وأقرب إلى أن يوفَّقوا فيها لما لم نوفَّق له نحن؛ لما خصَّهم اللَّه -تعالى- به من توقّد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم، وسهولة الأخذ، وحسن الإدراك وسرعته، وقلّة المعارض أو عدمه، وحسن القصد، وتقوى الرب -تعالى-؛ فالعربية طبيعتهم وسليقتهم، والمعاني الصحيحة مركوزة في فطرهم وعقولهم، ولا حاجة بهم إلى النظر في الإسناد، وأحوال الرواة، وعلل الحديث والجرح والتعديل، ولا إلى النظر في قواعد الأصول وأوضاع الأصوليين، بل قد غنوا عن ذلك كله، فليس في حقهم إلا أمران: أحدهما: قال اللَّه -تعالى- كذا، وقال رسوله كذا، والثاني: معناه كذا وكذا، وهم أسعد الناس بهاتين المقدمتين، وأحظى الأمة بهما.
قلة الخطأ في تفسيرهم وندرته
- المراد بالخطأ هنا: الاجتهادات الفردية من الواحد من السلف، والسبب في ندرة الخطأ، راجع لاكتمال أدوات الاجتهاد لديهم، ومن تأمل في تفاسيرهم، يجد أن ما يقع فيها من خطأ ليس مصدره الجهل والهوى؛ فما يُستَنْكَر على الواحد منهم إنما هو اجتهاد أخطأ صاحبه فيه؛ فهو مأجور عليه، وخطؤه خارج عن حد الرأي المذموم المبني على الهوى أو الجهل الذي ينال صاحبه الإثم.
لاتوجد تعليقات