رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. ناظم المسباح 29 يونيو، 2015 0 تعليق

تفسير آيات الصيام (4) أحكام أصحاب الأعذار في الفطر من شهر رمضان مع وجوب القضاء والكفارة

هذه الحلقات المختصرة تضمنت شرحاً موجزاً لآيات الصيام الواردة في القرآن الكريم، وما حوته من أحكام شرعية متعلقة بهذه العبادة العظيمة، وقد ذهبت في شرحها مذهب التفسير التحليلي فجعلت أذكر الآية القرآنية كما هي في المصحف، ثم انتقي الألفاظ الغريبة وأشرحها شرحا لغوياً أو أبين معناها الشرعي الخاص إن وجد، ثم إن كانت الآية نزلت لسبب معين فإني أذكره نقلاً، ثم أذكر معنى الآية إجمالاً على طريقة التفسير الإجمالي، ثم أنتقل إلى صلب الموضوع والهدف من هذا الشرح وهو الأحكام الفقهية في الآية فأتناول بالشرح المفصل ما حوته الآية من هذه الأحكام وغيرها مما دل عليه ظاهرها، أو أشارت إليه، أو استنبطه العلماء منها، ثم أختم الشرح ببعض الفوائد المتعلقة بالآية إن وجدت والتي لا صلة لها بالأحكام الفقهية كالفوائد الأصولية أو السلوكية وغيرها، وقد اعتمدت على التفاسير الفقهية والتحليلية في شرح الآيات كتفسير القرطبي وابن العربي والشوكاني وتفسير ابن عثيمين وغيرهم ممن أثبته في حواشي هذا الشرح، وعرضت على كثير من النوازل العصرية المتعلقة بالصيام مع بحثها والترجيح فيها متى ما لاح لي الحق واطمأنت إليه نفسي وسبقني إليه سلف من العلماء.

المسألة الرابعة: قضاء الصيام

     دل قوله تعالى: {فعدة من أيام أخر} على وجوب القضاء، والآية فيها مجاز بالحذف وهو جائز في القرآن الكريم، والمعنى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً فأفطر أَوْ عَلى سَفَرٍ فأفطر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، أي: فعليه صوم عدد أيام المرض، أو السفر من أيام أخر إن أفطر، ويسمى هذا الأسلوب في العربية بفحوى الخطاب، وهو ما يفهم من التقدير لا من اللفظ.

وقوله-تعالى-: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ دل على وجوب القضاء من غير تعيين لزمان؛ لأن اللفظ مسترسل على الأزمان لا يختص ببعضها دون بعض.

وقال القرطبي: وفي التعبير بــ(عدة) إشارة إلى وجوب استيفاء ما أفطره من الأيام.

وروى البيهقي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: نزلت: «فعدة من أيام أخر متتابعات «فسقطت متتابعات»، وجاء في موطأ مالك: أنها قراءة أبي بن كعب.

واستدل بعضهم بهذا الزيادة على وجوب التتابع في قضاء رمضان، ولحديث رواه البيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من كان عليه صوم رمضان فليسرده ولا يقطعه).

      والصحيح عدم وجوب التتابع، لضعف حديث عائشة وأبي هريرة المتقدمين، وبدون زيادة (متتابعات) وظاهر الآية يدل قوله: {فعدة من أيام أخر}، يقتضي إيجاب العدد فقط لا إيجاب التتابع‏، وإنما قالوا: إن صام القضاء متتابعا كان أفضل، لا لأجل دلالة الآية وإنما لاستحباب المسارعة في قضاء العبادة ولعموم قوله تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم}آل عمران (133)، وقوله صلى الله عليه وسلم : «فدين الله أحق أن يقضى» وغيرها من الأدلة التي تحث على المسارعة إلى فعل الطاعات.  وإلى هذا القول ذهب جماعة من الصحابة كأبي عبيدة عامر بن الجراح، وابن عباس، وأبي هريرة، ومعاذ بن جبل، وعمرو بن العاص وهو مذهب الجمهور.

     قال القرطبي في تفسيره: وعلى الاستحباب جمهور الفقهاء، وإن فرقه أجزأه، وبذلك قال مالك والشافعية، والدليل على صحة هذا قول الله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ولم يخص متفرقة من متتابعة، وإذا أتى بها متفرقة فقد صام عدة من أيام أخر فوجب أن يجزيه، قال ابن العربي: إنما وجب التتابع في الشهر لكونه معيناً، وقد عدم التعيين في القضاء فجاز التفريق.

     ومن فوائد لفظ (فعدة) أن القضاء لما فات من رمضان يكون بالعدد: فمن أفطر رمضان كله، وكان ثلاثين، وقضاه في شهر بالهلال، وكان تسعة وعشرين يوما، صام يوما آخر، وإن فاته صوم رمضان وهو تسعة وعشرون يوما، وقضاه في شهر - وكان ثلاثين يوما - فلا يلزمه صوم اليوم الأخير، لقوله تعالى: {فعدة من أيام أخر}. وقال آخرون: إن قضى شهرا هلاليا أجزأه، سواء كان تاما أم ناقصا وإن لم يقض شهرا، صام ثلاثين يوما(8).

- المسألة الخامسة: نسخ آية الصيام.

قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}: أي يقدرون على صيامه.

وقرأ ابن عباس وعلى الذين (يُطَوَّقُونَه) بضم الياء وفتح الطاء وتخفيفها وفتح الواو وتشديدها، أي: يكلفون الصوم.  وللعلماء أقوال في المراد بقوله- تعالى-: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ} أشهرها قولان:

- القول الأول: أن معناها يقدرون على صيامه مع مشقة وتعب، ويؤيد هذا التفسير قراءة ابن عباس «يُطَوَّقُونَه»، وعلى هذا فالآية عندهم محكمة وإنما نزلت في شأن الشيخ الكبير الهرم، والمرأة العجوز، إذا كانا لا يستطيعان الصيام فعليهما أن يفطرا وأن يطعما عن كل يوم مسكينا، ورجح هذا العلامة السعدي -رحمه الله- وحملها بعضهم على كل من شق عليه الصوم فأدخل في ذلك الحامل والمرضع أخذا بمدلول اللفظ، وأن الطاقة هي القدرة مع المشقة.

- القول الثاني: أن معناها: يستطيعون صيامه مطلقا، وعلى هذا فتكون الآية منسوخة بقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}، وأنها نزلت في المقيم الصحيح خيَّره الله- تعالى- بين الصوم وبين الفداء، وكان ذلك في بدء الإسلام فرض عليهم الصوم ولم يتعودوه فاشتد عليهم، فرخص لهم في الإفطار والفدية، ثم نسخ ذلك وأوجب الله عليهم الصوم.

وقال بن عباس إلا الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفا على الولد فإنها باقية بلا نسخ في حقهما.

ويشهد لهذا القول ما جاء في الصحيحين عن سلمة بن الأكوع قال: لما نزلت هذه الآية {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} كان من أراد أن يفطر ويفتدى، حتى نزلت الآية بعدها فنسختها.

وفي رواية للإمام مسلّم من طريق آخر عن سلمة- أيضا- قال: كنا في رمضان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء أفطر فافتدى بطعام مسكين حتى أنزلت هذه الآية: {(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، وهذا هو الراجح لمطابقة حديث أم سلمة لظاهر الآية.

 المسألة السادسة: كفارة الصوم:

- من قوله: {فدية طعام مسكين} والمعنى من لم يشأ أن يصوم فعليه فدية وهي أن يطعم عن كل يوم مسكينا، وكان هذا في وقت التخيير كما بينا، وقد قرئت بالإضافة {فِدْيةُ طَعامِ مِسكين} وهذا ليس بالجيد؛ لأن الطعام تفسير للفدية، وليست الفدية بمضافة إلى الطعام.

- ومعنى (فدية) أي فداء يفتدي به عن الصوم؛ والأصل أن الصوم لازم لك، وأنك مكلف به، فتفدي نفسك من هذا التكليف والإلزام بإطعام مسكين.

- وأما كيفية الإطعام: فإن عليهم لكل يوم طعام مسكين؛ وليس المعنى طعام مسكين لكل شهر؛ بل لكل يوم؛ ويدل لذلك القراءة الثانية في الآية: {طعام مساكين} بالجمع؛ فكما أن الأيام التي عليه جمع؛ فكذلك المساكين الذين يطعَمون لا بد أن يكونوا جمعاً.

- وأما المراد بالمسكين: فهو من لا يجد شيئاً يكفيه لمدة سنة؛ فيدخل في هذا التعريف الفقير؛ فإذا مر بك المسكين فهو شامل للفقير؛ وإذا مر بك الفقير فإنه شامل للمسكين؛ أما إذا جمعا فقد قال أهل العلم: إن بينهما فرقاً: فالفقير أشد حاجة من المسكين؛ الفقير هو الذي لا يجد نصف كفاية سنة؛ وأما المسكين فيجد النصف فأكثر دون الكفاية لمدة سنة.

- ومقدار الكفارة: أن يطعم مكان كل يوم مسكينا مداً من غالب قوت البلد وهذا قول فقهاء الحجاز، وقال بعض فقهاء العراق: عليه لكل مسكين نصف صاع عن كل يوم، وقال بعضهم: نصف صاع من البر وصاع من غيره، وقال ابن عباس: يعطي كل مسكين عشاءه وسحوره.

- وأما نوعها: فقد أطلق الله -تعالى- لفظ الإطعام ولم يذكر نوعه ولا كيفيته، فيرجع في بيان ذلك للعرف، والحكم المطلق إذا لم يكن له حقيقة شرعية يرجع فيه إلى الحقيقة العرفية

- ومن فوائد إطلاق لفظ الإطعام التيسير على المكلفين، في اختيار كيفية الإطعام إما بتمليك الفقير أو بتغذيته غداء أو عشاء؛ لأن الكل يصدق عليه لفظ الإطعام.

المسألة السابعة: الزيادة على الكفارة.

 من قوله -تعالى-: {فمن تطوع خيرا فهو خير له}.  التطوع: السعي في أن يكون الإنسان فاعلاً للطاعة باختياره بدون إكراه. والخير: مصدر خار إذا حَسُنَ وَشَرُفَ، وهو منصوبٌ لتضمين تطوع معنى أتى، أو على أنه صفة لمصدر محذوف أي تطوعا خيراً.

      قال الطبري -رحمه الله- والمعنى: فإن أطعم مسكينين فهو خير له، وقيل المراد بها: فمن تطوع خيرًا فصامَ مع الفدية، والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله -تَعَالى- ذِكْرُه عَمَّمَ بقوله:{فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرَاً}، فلم يخصص بعض معاني الخير دون بعض. فإنّ جَمْع الصَوْم مع الفدية من تطوُّع الخير، وزيادةُ مسكين على جزاء الفدية من تطوُّع الخير. وجائز أن يكون تعالى ذِكْرُه عَنَى بقوله:{فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرَاً}، أيَّ هذه المعاني تطوّع به المفتدي من صومه، فهو خير له؛ لأن كل ذلك من تطوع الخير، ونوافل الفضل.

 المسألة الثامنة: الصيام أفضل من الصدقة.

قوله: {وأن تصوموا خير لكم} معناه: أن الصيام خير لهم من الإفطار مع الفدية

وفيه ترغيب في الصوم وتحبيب فيه. أي: وأن تصوموا أيها المطيقون للصوم، أو أيها المكلفون جميعا خير لكم من كل شيء سواه، إن كنتم تعلمون فوائد الصوم في حياتكم، وحسن جزائه في آخرتكم.

      وعن أبى أمامه رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله مرني بعمل قال: عليك بالصوم؛ فإنه لا عِدْل له- أي لا يعادل ثوابه بشيء- فقلت: يا رسول الله مرني بعمل، فقال: عليك بالصوم فإنه لا عدل له. فقلت: يا رسول الله مرني بعمل أدخل به الجنة، فقال: عليك بالصوم فإنه لا مثل له»؛ وذلك لأن الأفعال البدنية كثيراً ما يدخلها الرياء إلا الصوم؛ فإنه لا يوقف عليه ما لم يخبر الإنسان عنه بلسانه، ولا عبادة يدخل فيها الإنسان بالنية المجردة إلاً الصوم؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : «قال الله: «كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة».  وقوله: {إن كنتم تعلمون} أي: إن عرفتم ما فيه من المنفعة، وتحققتم ما يثمره لكم لم تتهاونوا في تحمله، وليس (إن) شرطية، بل استئنافية، ينبغي الوقوف قبلها، واستئناف الكلام بها.

فوائد متفرقة من الآية:

     بينت الآية سعة رحمة الله -تعالى- بعباده في هذا التكليف؛ حيث تدرج بهم وأخذ بهم جانب اليسر والسعة. نقل الإمام الرازي في تفسيره عن الإمام القفال -رحمه الله- قال: «انظروا إلى عجيب ما نبه الله عليه من سعة فضله ورحمته في هذا التكليف، وأنه تعالى بين في أول الآية أن لهذه الأمة في هذا التكليف أسوة بالأمة المتقدمة والغرض منه ما ذكرنا أن الأمور الشاقة إذا عمت خفت، ثم ثانيا: بين وجه الحكمة في إيجاب الصوم، وهو أنه سبب لحصول التقوى، فلو لم يفرض الصوم لفات هذا المقصود الشريف، ثم ثالثا: بين أنه مختص بأيام معدودة، فإنه لو جعله أبدا أو في أكثر الأوقات لحصلت المشقة العظيمة ثم بين رابعا: أنه خصه من الأوقات بالشهر الذي أنزل فيه القرآن لكونه أشرف الشهور بسبب هذه الفضيلة، ثم بين خامسا: إزالة المشقة في إلزامه فأباح تأخيره لمن شق عليه من المسافرين والمرضى إلى أن يصيروا إلى الرفاهية والسكون، فهو سبحانه راعى في إيجاب الصوم هذه الوجوه من الرحمة فله الحمد على نعمه كثيرا». 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك