تعظيم الله -جل وعلا – للأيمان يوجب علينا الاحتراز منها والالتزام بأحكامها
قال الله -عز وجل- في كتابه الكريم: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة 89). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كان حالِفًا، فلْيَحلِفْ باللهِ أو لِيَصْمُتْ» (رواه البخاري).
هذه النصوص الكريمة أصل في موضوعِ الأَيْمانِ التي عَظَّمها اللهُ -سبحانه وتعالى-، فوجب علينا تعظيمُها، والالتزامُ بأحكامها، والتأدبُ بآدابها، ومن ذلك:
لا يجوزُ القَسَمُ بغير الله -تعالى
كما تقدم من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من كان حالِفًا، فلْيَحلِفْ باللهِ أو لِيَصْمُتْ»، ولكنَّ اللهَ -جل جلاله- يقسم بما شاء، فقد أقسم بِنَفْسِهِ فقال: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الحجر 92-93)، وأقسم بكتابه العزيز فقَالَ: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} (ص 1)، وَأَقْسَمَ بِمَخْلُوقَاتِهِ فَقَالَ: {الشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} (الشمس 1-7).
أما الْمَخْلُوقُ فَلاَ يَحِلُّ له أَنْ يُقْسِمَ بِغَيْرِ الْخَالِقِ -جَلَّ وَعَلاَ-، فقد قال رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ» (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ) صححه الألباني. وَكَفَّارَتُهُ التوبةُ الصادقةُ وشهادةُ التَّوْحِيدِ. قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ: وَالْلاَّتِ وَالْعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ» (متفق عليه).
المؤمن لا يحلف على كذب
فإن ذلك عند الله عظيم، وقد سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه اليمينَ الكاذبةَ باليمينِ الغَموس، التي تغمسُ صاحبَها في النار، والعياذُ بالله. فمن حلف على أمر هو فيه كاذبٌ، كأن يقسمَ بالله أنه فعلَ شيئا وهو لم يفعله، فهو مع كذبه، لم يُعَظِّمْ اسمَ الله، فأقسم بالله على كذب؛ وَلذلك فقد عُدَّتْ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ؛ لأَنَّ صَاحِبَهَا قد تَعَمَّدَ الْكَذِبَ، وَتَجَرَّأَ عَلَى اللهِ -تعالى-، فَهِيَ تَغْمِسُهُ فِي الإِثْمِ الَّذِي يَغْمِسُهُ فِي النَّارِ. وقد سُئلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن الكبائر، فقال: «الإشراكُ باللهِ، وعقوقُ الوالديْنِ، وقتلُ النفسِ، واليمينُ الغَموسُ» (رواه البخاري). فقرنها بالشرك، وعقوقِ الوالدين، وقتلِ النفسِ. فتأملوا ذلكَ -رحمكم الله!
فإنْ كان يُقصدُ بهذه اليمينِ الكاذبةِ اقتطاعُ حقِّ مسلمٍ، فإنَّ الوعيدَ على ذلك أعظم، فقد قال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ» (رواه مسلم). قال الله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (آل عمران 77).
المؤمنُ لا يُكْثِرُ من الحَلِفِ
فالمؤمنُ صادقُ الحديث أصلًا، ولا يلجأُ إلى الحَلِفِ ما لم يكن مضطرا إليه. فَيَحْفَظُ يَمِينَهُ، وَلا يُعَوِّدَ لِسَانَهُ كَثْرَةَ الْحَلِفِ؛ قَالَ الله -عز وجل-: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ} (القلم 10)، وَذَلِكَ أَنَّ الْكَاذِبَ لمهَانَتِهِ إِنَّمَا يَتَّقِي بِأَيْمَانِهِ الْكَاذِبَةِ، الَّتِي يَجْتَرِئُ بِهَا عَلَى أَسْمَاءِ اللهِ -تعالى.
المؤمن يكفر عن يمينه إن رأى الخير في غيره
إذا حلف المؤمن ثم رأى الخير في غير ما أقسم عليه، فإنه يأتي الذي هو خير، ويكفر عن يمينه، فَلاَ يَمْنَعَنَّ أَحَدَكم مِنَ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ وَالإِحْسَانِ أَيْمَانٌ يَحْلِفُهَا؛ فَقَدْ قَالَ اللهُ -عز وجل-: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة 224). أي: لا تَجْعَلُوا أَيْمَانَكُمْ بِاللهِ -تعالى- مَانِعَةً لَكُمْ مِنَ الْبِرِّ وَصِلَةِ الرَّحِمِ إِذَا حَلَفْتُمْ عَلَى تَرْكِهَا. وقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» (مسلم).
المؤمن يعظم اسم الله -عز وجل
المؤمنُ إذا حُلِفَ له بالله فإنه يرضى ويقبلُ، تعظيما لاسمِ اللهِ -عز وجل-، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من حلفَ باللهِ فَلْيَصْدُقْ، ومَن حُلِفَ لَه باللهِ فليرضَ، ومَن لم يرضَ باللهِ فليسَ منَ اللهِ» (صحيح ابنُ ماجه). وهكذا كانت أخلاق الأنبياء، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «رَأَى عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ رَجُلًا يَسْرِقُ، فَقالَ له: أَسَرَقْتَ؟ قالَ: كَلَّا وَاللهِ الذي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَقالَ عِيسَى: آمَنْتُ باللهِ، وَكَذَّبْتُ عَيْنِي» (متفق عليه). فتأمل مدى تعظيمَ الله في قلب هذا النبي الصالح -عليه السلام.
أنواع اليمين
وَأنْوَاعَ الْيَمِينِ ثَلاَثَةٌ: الْيَمِينُ الْغَمُوسُ، وَالْيَمِينُ اللَّغْوُ، وَالْيَمِينُ الْمُنْعَقِدَةُ.
الْيَمِينُ الْغَمُوسُ
فَأَمَّا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ: فَهِيَ أن يُقْسِمَ الحالفُ على شيء مضى كاذبًا عَامِدًا؛ كَأَنْ يَحْلِفَ: وَاللهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ فَعَلَهُ. وَهذه اليمينُ قَدْ تَوَعَّدَ اللهُ صَاحِبَهَا بِالْعَذَابِ، والْوَاجِبُ فِيهَا التَّوْبَةُ وَالاِسْتِغْفَارُ.
الْيَمِينُ اللَّغْوُ
- وَأَمَّا الْيَمِينُ اللَّغْوُ: فَهِيَ الَّتِي يَسْبِقُ اللِّسَانُ إِلَى لَفْظِهَا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِمَعْنَاهَا، كَقَوْلِهِ: لاَ وَاللهِ، وَبَلَى وَاللهِ، وكما قال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «هُوَ كَلاَمُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ: كَلاَّ وَاللهِ، بَلَى وَاللهِ» (رواه أبو داود وصححه الألباني). فهذه اليمينُ لاَ إِثْمَ فِيهَا ولا مؤاخذةَ بها وَلاَ كَفَّارَةَ لَهَا؛ قال -تعالى-: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (المائدة 89). وَلَكِنْ يَنْبَغِي التَّحَرُّزُ مِنْهَا، فيعصم المسلمُ لسانَه من ذكر لفظِ الجلالةِ إلا وهو معظمٌ له.
الْيَمِينُ الْمُنْعَقِدَةُ
- وَأَمَّا الْيَمِينُ الْمُنْعَقِدَةُ: فَهِيَ الْحَلِفُ عَلَى أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ، كَقَوْلِهِ: وَاللهِ لأَفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ لاَ أَفْعَلُ كَذَا، فيجب على الحالف أن يُوَفِّيَ ما أقسم عليه، ولكنْ إنْ رأى ما هو خيرٌ من ذلك، فله أن يحنِثَ، ولكنه يُكفّرُ عن هذه اليمينِ المنعقدة، وكفارتُها مذكورةٌ في قوله -تعالى-: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة 89). وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ عَلَى التَّخْيِيرِ فِي الثَّلاَثَةِ الأُولَى، فَبِأَيِّهَا كَفَّرَ جَازَ، وَلاَ يَنْتَقِلُ إِلَى الصِّيَامِ إِلاَّ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ تِلْكُمُ الثَّلاَثَةِ. فيا أيها المسلمون، اتقوا الله في ألسنتكم، وعظموا اسمَ ربكم، واحفظوا أيمانَكم.
لاتوجد تعليقات