تعظيمُ العلوم العقليّة على حساب التزكية وأثر ذلك في الانحراف الفكريّ
مَثَّلَ الاهتمام بالعلوم العقلية القائمة على النظر والفكر والرأي شهوةً فكريةً لدى ثلَّةٍ من المهتمين، وراحوا يتحدثون عن فكرة المعرفة، وعن اللذة الحاصلة بسبب تداول العلوم العقلية في كل واد وناد، وهذا التَّلذُّذُ لم يكن مصطنعا في أغلبه بل كان حقيقيا دافعه الانبهار والعُجب، في حين كانت المعاني السلوكية القائمة على تزكية النفس وكَفِّهَا عن الشهوات قد أخذت مقاعد الاحتياط من اهتمامهم الفكري، وعدوها سلوكا شخصيا لا ينبغي طرحه في المجالس ولا تحديث الناس به، فكان ذلك سببا في التشاجر مع النصوص وردها لصالح ما اصطلح عليه بالعلوم العقلية؛ مما أدى بكثير منهم إلى القول بأن الكمال النفسي يكون بحسب ما تَحَصَّل عليه الإنسان من الإحاطة بالمعقولات والعلم بالمجهولات.
فهيمن العقل الأداتي على الحياة العلمية؛ مما أدى إلى نزع القداسة عن المعرفة، وَاخْتُزِلَتْ في دوافع القوة والهيمنة، فبعد أن كان قصد المعرفة الاتصال بالوحي ومعرفة الله إلا أنه تم توجيهها نحو مادية المعرفة، والاستدلالات البرهانية والالتحام بالحس، وعدُّ كل ما هو خارج عنه أسطوريا متروكا لا قيمة له.
والأدهى والأمرُّ أن يصرح بعض من يُحسب على الإسلام بأهميةَ زحزحة مفهوم اللاهوتية وجعل الوحي إشكالية معرفية بعد أن كان بديهيا في السياقات الإسلامية، ويعظم الخطب إذا عرفنا نداءاتهم بالتأكيد على أهمية العلوم العقلية وضرورتها للتحرر من مبدأ الفرقة الناجية، والأمم الهالكة الذي تؤكد عليه كتب الملل.
الغلو المعرفي
وقد ناقش علماء الإسلام على ضوء أصول الوحي هذا الغلو المعرفي في العلوم الإنسانية وتفضيلها على الوحي، وبيَّنوا أن العلوم العقلية لا تكفي في الكمال المعرفي، بل لا بد من العلوم الدينية، وكان ممن حاز قصب السبق في تبيين هذه القضية شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقد بَيَّنَ بطلان المقدمة القاضية بحصر الكمال المعرفي والنفسي في هذه العلوم، فقال: «المقدمة الهائلة التي جعلوها غاية مطلوبهم وهو أن كمال النفس في مجرد العلم بالمعقولات مقدمة باطلة... ومن هنا جعلوا الشرائع مقصودها إما بإصلاح الدنيا، أو بتهذيب النفس لتستعد للعلم، أو لتكون الشريعة أمثالاً لتفهيم المعاد في العقليات كما يقوله الملاحدة الباطنية مثل أبي يعقوب السجستاني وأمثاله؛ ولهذا لا يوجبون العمل بالشرائع على من وصل إلى حقيقة العلم، ويقولون إنه لم يجب على الأنبياء ذلك، وإنما كانوا يفعلونه؛ لأنه من تمام تبليغهم الأمم ليقتدوا بهم في ذلك، لا؛ لأنه واجب على الأنبياء، وكذلك لا يجب عندهم على الواصلين البالغين من الأمة والعلماء.
ضُلال المتصوفة
ودخل في ذلك طائفة من ضُلال المتصوفة، ظنوا أن غاية العبادات بحصول المعرفة، فإذا حصلت سقطت العبادات، وقد يحتج بعضهم بقوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين} (الحجر:99)، ويزعمون أن اليقين هو المعرفة، وهذا خطأ بإجماع المسلمين من أهل التفسير وغيرهم؛ فإن المسلمين متفقون على أن وجوب العبادات كالصلوات الخمس ونحوها، وتحريم المحرمات كالفواحش والمظالم لا يزال واجباً على كل أحد ما دام عقله حاضراً، ولو بلغ، وأن الصلوات لا تسقط عن أحد قط إلا عن الحائض والنفساء أو من زال عقله».
خطر الفكرة
فهذا الإدراك من ابن تيمية لخطر الفكرة وما جَرَّتْهُ من الانحرافات الفكرية والعقدية على معتنقيها، يدل على مدى عمقه في تصورها؛ فقد درس مظاهر الغلو فيها عند الباطنيين والصوفية، وكيف أوصلت الأوَّلين إلى الإلحاد، والباقين إلى إسقاط الشرائع جملة، وكل هذا مخالف لما عليه المسلمون.
مظاهر عدم الانصياع للشريعة
لو تفطَّنا لهذا الأمر علمنا أنه لا يخص هذه الطوائف التاريخية، بل له امتدادات في عصرنا الحديث، فالمعظمون لما يسمُّونه بالعلوم العقلية أبدوا نوعا من عدم الانصياع للأحكام الشرعية، وكان لعدم الانصياع مظاهر عدة، منها:
- الاستخفاف غير المسوّغ بالفكر التقليدي واعتقاد عدم فاعليته في المجتمع.
- الوثوقية المفرطة وتهميش عمل أجيال من العلماء والفقهاء على مدى قرون طويلة.
- إسقاط مفاهيم على النص لا تحتملها بنيته اللغوية.
بل لم تزكِّهم علومهم ليكتموا القول بعدم إلزامية التفسير النبوي، وأنه يُعدُّ تاريخيا لاندماجه في الأنماط لإنتاج المعنى داخل التاريخ، بل وصلوا إلى أقبح من ذلك؛ حيث زعموا أن النبي لم يكن واعيًا للقرآن بالدرجة الكافية، وإنما كان أمانة عنده بلغها للناس وأداها دون تأويل وأعطاهم مفاتيح عامة للفهم.
الغلو في التفسير المادي
وهذا الضلال في الفهم والزيغ في الطرح لم يكن له من داع غير الغلو في التفسير المادي وتعظيم العقل على حساب الشريعة، وجعله أداة وحيدة لتفسير النصوص لا تخضع لأي سلطة موضوعية؛ ولذلك نبه العلماء عند فشو هذه الظاهرة على خطر تضخيم هذه العلوم على حساب التزكية والتربية، وخطورة الابتعاد بالتفكير عن مفهوم العبادة والخشية وطلب مرضاة الله؛ مما يجعله مجردا عن أي قصد نبيل.
فالمعظم للعلوم العقلية يتعامل مع النصوص ليستنتج معاني تختلف بالكلية عن مقاصد النصوص، وقد نبه شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أهمية العبادة في الكمال المعرفي فقال: «عبادة الله وحده ومحبته وتعظيمه من أعظم مقومات كمال النفس وسعادتها، لا أن سعادتها في مجرد العلم الخالي من حب وعبادة وتأله».
كما بين أن الطريق الأفضل في الجمع بين الطريقين، لا بتفضيل إحداهما على الأخرى فقال: «وكل واحد من طريقي النظر والتجرد طريق فيه منفعة عظيمة وفائدة جسيمة، بل كل منهما واجب لا بد منه ولا تتم السعادة إلا به، والقرآن كله يدعو إلى النظر والاعتبار والتفكر وإلى التزكية والزهد والعبادة.
لاتوجد تعليقات