رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني 5 سبتمبر، 2019 0 تعليق

تصحيح المفاهيم – لا يُتْرَك القولُ والعملُ بالحق لكَوْن بعض أهل الباطل يَفْعَلُه


معلوم أن الحق ما شَهِدَتْ له الأدلة النقلية والعقلية على كونه حقًّا، وأن الباطل كذلك، ولا يُنْظَر – عند المنصفين – إلى القائل أو الفاعل، أو إلى الطائفة التي ينتمي إليها من تكلم بالحق أو غيره، لمعرفة ما في كلامه من حق وباطل، أو كونه مقبولاً أو مردودًا؛ فالحق يُعْرف بدليله الدال عليه، لا بقائله ومن ينتمي إليه.

بين إفراط وتفريط ووسط

     والناس في هذا بين إفراط وتفريط ووسط؛ فهناك مَنْ يَقْبَلُ قول من ينتمي إلى حِزْبه، أو جماعته وطائفته ومذهبه، دون النظر إلى حجة هذا القائل، وحجة من يعارضه، بل يتعدى به الولاء المطلق؛ فيتجاوز الحد؛ فيتعصَّب لقول مَنْ في جماعته أو حزبه أو مذهبه، وإن كانت الأدلة على بطلان قوله ظاهرة مُتضافرة، ويتمحَّل في التماس نصرة هذا القول بما يخرجه عن حَيِّز الإنصاف والاعتدال!

رد القول

     ويقابل هذا الفريق مَنْ إذا سمع قولاً يأتي عن رجل يختلف معه في بعض المسائل؛ فيبادر بردّ هذا القول، دون التأنِّي والنظر الخالي من الهوى في دلائل صحة هذا القول أو فساده، وكلا الطائفتين قد خرج عن جادّة الاعتدال، والإنصاف، والتجرّد، والإخلاص فيما يأتي ويذَر لله رب العالمين.

من وفّقه الله وسدَّده

     وأما من وفّقه الله وسدَّده، وهداه إلى الحق وأرشده؛ فهو الذي يُفرِّق بين القول والقائل؛ فقد يكون القول في ذاته حقًّا محْضًا، أما قائله فشيطان رجيم، وقد يكون القول باطلا في نفسه قطْعًا، أما قائله فوليٌّ حميم، فيُقْبَلُ الحق، ويُردُّ الباطل، وأما حكم التعامل مع القائل أو الفاعل؛ فهذا له تفصيل آخر.

الحق أولى بالقبول

     فالحق أولى بالقبول والتعظيم دون النظر إلى قائله، طالما أنه حق في الحال والمآل، والنبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره أبو هريرة رضي الله عنه بما قاله الشيطان له في فضل قراءة آية الكرسي، قال له: «صَدَقَكَ، وهو كذوب» رواه البخاري برقم (2311) من حديث أبي هريرة، وليس هناك شرّ من الشيطان وأفسد منه، أعاذنا الله من شياطين الإنس والجن، ومع ذلك فلم يَرُدَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كلمة الحق منه، لكونها صَدَرَتْ من عَدُوٍّ لله -جل وعلا- وأوليائه عبر التاريخ.

اليهود أعداء لنا

     وكذلك لما أَتَى يهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: إنكم تُنَدِّدُون، إنكم تُشْرِكُون، تقولون: ما شاء الله وشِئْتَ، وتقولون: والكعبة؛ فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يَحْلِفوا أن يقولوا: وربِّ الكعبة، ويقولوا: ما شاء الله ثم شئت» صححه شيخنا الألباني -رحمه الله- في (صحيح سنن النسائي) برقم (3773)، ولم يَقُلْ الرسول صلى الله عليه وسلم: «اليهود أعداء لنا، ما يريدون لنا الخير، فلا نبالي بكلامهم؛ لأنهم – فقط – يبحثون عن الزلات، ويكتمون الحسنات»، بل أمر أصحابه – رضي الله عنهم – بإصلاح كلماتهم، وأما نيّة اليهودي السيئة فعلى نفسه، وأما الحق من كلامه فيُقْبَل لكونه حقًّا.

العمل عند أئمة الإسلام

     وعلى هذا جَرَى العمل عند أئمة الإسلام، ويدلُّ على ذلك: ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في (منهاج السنة النبوية) (4/149)؛ حيث قال: «أما الطريق الثاني في الجواب، فنقول: الذي عليه أئمة الإسلام: أن ما كان مشروعًا لم يُتْرَك لِمُجَرَّد فِعْلِ أهل البدع،  وأصولُ الأئمة توافق هذا»، وذَكَر – رحمه الله – مسائل عدة، كما ذَكَر أن المستحب قد يُترك إذا أصبح شعارًا لأهل البدع، وأن من فعل هذا الشعار، فحصل بذلك مفسدة أعظم من فعل المستحب؛ فَيُتْرَك كذلك». انظر (4/154-155).

أصولُ الأئمة

     فتأمل قوله – رحمه الله -: «الذي عليه أئمة الإسلام… إلخ»، وقوله: «وأصولُ الأئمة توافق هذا»؛ فها هو ذا –رحمه الله- ينسب هذا القول المنصف المعتدل إلى أئمة الإسلام وأصولهم، لكن هذا عكس ما عليه الغلاة في هذا العصر، الذين يُحَذِّرون جلساءهم من فعل الشيء – وهو حق محْض – لمجرد فِعْل من يخالفهم له، ويقولون: تريدوننا أن نكون مثل الحزبيين، أو المبتدعة؛ فنقول بكذا، ونعمل بكذا!

الطائفة بين الحق والباطل

     ومعلوم أن أي طائفة عندها حق وباطل، وصواب وخطأ؛ فلا يجوز ترْكُ الحق الذي عندها لوجود الباطل بين أفرادها، وكذا لا يجوز قبول الباطل من الموافقين، لمجرد ما عندهم من الحق والنفْع في بعض الجوانب، ولو أطلقنا العمل بهذا الأسلوب، وطرَدْنا إعمال هذه الإفرازات المنحرفة؛ لقلنا: اتركوا النطق بالشهادتين؛ لأن أهل البدع ينطقون بهما، واتركوا إقامة الصلاة؛ لأن أهل الأهواء والشبهات يُصَلُّون، وهكذا، وتطبيق هذه القاعدة بهذه الطريقة يُفْضي إلى الانسلاخ من الإسلام بالكلية!

الأصل الذي عليه علماء الملة

     ولأن الأصل الذي عليه علماء الملة: أن القواعد التي ثبت صحتها يُطْرَد العمل بها، إلا إذا ورد دليل يدلُّ على عدم إطرادها في موضع أو مواضع، وهنا نقول: معلوم أن كل طائفة فيها حق وباطل، فمتى نقبل بعض أقوالها، ومتى نرد بعضها الآخر؟ ما المعيار الذي نستطيع أن نفرِّق به بين المقبول أو المردود من كلامها؟ لاشك أن هناك معيارًا واحدًا، وهو: إذا قامت الأدلة على صحة جزء من كلام هذه الطائفة أو تلك؛ قبلناه، ودعَوْنا الناس إلى قبوله – وإن كانت طائفة مذمومة في الجملة – وإذا قامت الأدلة على فساد قول من أقوالها رددناه، وحذّرْنا منه – وإن كانت طائفة محمودة في الجملة، ولها مساعٍ مشكورة – هذا فقط هو مناط القبول والرد؛ وبهذا تظهر صحة طريقة أئمة الإسلام، ويظهر فساد قول الغلاة أو الجفاة حيثما كانوا، والله أعلم.

الحق يُقْبل من كل من تكلم به

     وقال شيخ الإسلام – رحمه الله – في (الحموية) (ص153): «وليس كل مَنْ ذَكَرْنا شيئًا من قوله من المتكلمين وغيرهم، نقول بجميع ما يقول في هذا وغيره، ولكن الحق يُقْبل من كل من تكلم به، وكان معاذ يقول في كلامه المشهور عنه الذي رواه أبو داود في (سننه): اقْبَلُوا الحقَّ مِنْ كل مَنْ جاء به، وإن كان كافرًا – أو قال فاجرًا- واحْذَرُوا زَيْغَةَ الحكيم، قالوا: كيف نعرف أن الكافر يقول الحق؟ قال: إن على الحق نورًا»، أو كلامًا هذا معناه». اهـ.

حال بعض الجهلة

     وقال شيخ الإسلام – رحمه الله- أيضًا كما في (مجموع الفتاوى) (6/24-26): «وقد تكلَّمْتُ في دُنُوِّ الرب وقُرْبِهِ، وما فيه من النـزاع بين أهل السنة، ثم بعض المُتَسَنِّنة والجُهال، إذا رأَوْا ما يُثْبِتُه أولئك من الحق، قد يَفِرُّون مِنْ التصديق به، وإن كان لا منافاة بينه وبين ما ينازعون أهل السنة في ثبوته، بل الجميع صحيح»، ثم ذكر حال بعض الجهلة من المتسنِّنة الذين يردون بعض الحق الذي مع المبتدعة، بغضًا لهم، وتنفيرًا عنهم؛ فقال -رحمه الله-: «وسبب ذلك أن قلوب الـمُثْبِتَةِ تبقى متعلقة بإثبات ما نَفَتْهُ المبتدعة، وفيهم نُفْرة عن قول المبتدعة، بسبب تكذيبهم بالحق ونفيهم له؛ فَيُعْرِضُون عن ما يثبتونه من الحق، أو يَنْفُرون منه، أو يُكَذِّبون به، كما قد يصير بعض جهال المتسننة في إعراضه عن بعض فضائل علي وأهل البيت، إذا رأى أهل البدعة يَغْلُون فيها، بل بعض المسلمين يصير في الإعراض عن فضائل موسى، وعيسى؛ بسبب اليهود والنصارى بعض ذلك حتى يُحْكَى عن قوم من الجهال أنهم ربما شَتَمُوا المسيح إذا سمعوا النصارى يشتمون نبينا في الحرب، وعن بعض الجهال أنه قال: سُبُّوا عَلِيًّا كما سَبُّوا عَتِيقَكُمُ،كُفْرٌ بِكُفْر؛ وإيمانٌ بإيمانِ»؛ فتأمل وصْفه بالجهل لمن سلك سبيل النفرة من كل ما عليه المخالفون – وإن كان حقا – وأنه لا ينفعه في هذا المقام مجردُ انتسابه إلى السنة وأهلها، والله المستعان.

المُعْتَبرُ رُجْحَانُ الدليل

     قال شارح الطحاوية – رحمه الله – في (2/ 413) ط/ مؤسسة الرسالة: «المُعْتَبرُ رُجْحَانُ الدليل، ولا يُهْجَر القول؛ لأنَّ بعض أهل الأهواء وافق عليه، بعد أن تكون المسألة مختلفًا فيها بين أهل السنة».اهـ. ومعناه: أنه إذا كان أحد أقوال أهل البدع – الذين وقعوا في البدع الكبرى من جهة أخرى – يوافق قول بعض أهل السنة، ويخالف بعضه الآخر، أي لم يُجمع على خلاف قولهم؛ فلا يُرّدُّ مطلقًا؛ لأنه ليس من الأقوال التي تفرد بها أهل البدع، وصادموا فيها الأدلة، إنما يُنْظَر للدليل المرجِّح؛ فقد يكون مع الفريق الذي وافقهم من أهل السنة، ومن ثَمَّ يكون مع المبتدعة في هذا الموضع بعينه، وهذا الذي قرره هؤلاء العلماء هو الذي عليه علماء السلفية المعتدلون في هذا العصر، كما هو مقرَّر في موضعه، أما الغلاة، والمتهوِّرون، والغوَّاصون في النوايا وذوات الصدور فلهم شَأْنٌ آخر، هدانا الله وإياهم إلى سواء الصراط.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك