تربيتنا في زمن الفتنة
التربية الإيمانيَّة عمليَّة مستمرَّة مع الفرد والجماعة، ولتَكُون مجديَة يجب أنْ تتكيَّف مُحتَوياتُها وأسالِيبُها مع كلِّ مرحلةٍ من المراحل التي تمرُّ بها الدعوة والداعية والمحيط العام لكلٍّ منهما، ولعلَّ المرحلة المتميِّزة التي تجتازها الأمَّة تقتَضِي شيئًا من التوضيح لما ينبغي أنْ يكونَ عليه منهَجُنا التربوي، وبين يدي هذا الموضوع نَطرَح ثلاثة أسئلة:
مَن نحن بالضبط؟ وما التربية التي تُناسِبنا في هذه المرحلة؟
المرحلة الراهنة
تتميَّز أساسًا بتراجُعٍ ملحوظ للصحوة المبارَكة، وانحِسار هامش التحرُّك، وتقلُّص مِساحة الحريَّة وحقوق الإنسان، وانتشار الجوع والخوف على نِطاقٍ واسع في ظلِّ النظام العالمي الجديد، لدرجة أنَّ الإسلام ذاته أصبح متَّهَمًا من أكثر من جهةٍ، وأضحَى الدُّعاة يُصَنَّفون في خانة المتطرِّفين أو الإرهابيِّين، وهذا أحدَثَ زِلزالاً نفسيًّا حقيقيًّا على مستوى العمل الدعوي، وعلى مستوى المجتمع كلِّه بأفراده وتنظيماته، وأفكاره ومشاعره.
الدُّعاة إلى الله
تتمثَّل الدعوة في الحركة الإسلاميَّة الرشيدة بعُلَمائها وأبنائها وأجهزتها ومنهَجِها، المتسلِّحة بالثقة في الله - تعالى - وفي نفسها، وبالوعي العَمِيق برسالتها الهادِيَة الهادِئَة التي أثار نَشاطُها التربوي والثقافي والاجتماعي قلَقَ الأوساط العلمانيَّة المبثوثة في مَفاصِل السياسة والاقتِصاد والإعلام، فعملت على التصدِّي له بكلِّ الوسائل؛ لأنَّها لا تَرضَى بأقل من تحييد الإسلام وعَلمَنته، وصرف الجماهير عن مَقاصِده وأحكامه وشعائره وأخلاقه ووعوده الحضاريَّة، تُسانِدها الهجمة الغربيَّة المتعدِّدة الاتجاهات على دين الله، وهكذا تجد الدعوة نفسَها أمامَ جبهات ساخِنة تَحتاج إلى الحضور المُتواصِل والتصدِّي القوي، جبهات تَشمَل تبجُّح الكفر والنَّشاط التنصيري وفتنة الطائفية والتشويش العلماني على حَقائق الإسلام وتاريخه ودعوته في جميع الأحقاب.
التربية المناسبة
أمام تحدِّيات المَرحَلة ومَآسِيها، ولأنَّنا مسؤولون إيمانيًّا ووطنيًّا وإنسانيًّا فإنَّه يلزمنا التمسُّك الواعي بتربيةٍ شاملة مُتكامِلة بصيرة، تَبدَأ بالتركيز على الفَهْم باعتِبارِه حجَر الأساس في عمليَّة البناء، وتتواصَل بتَعمِيق التربية الروحيَّة فرديًّا وجماعيًّا من خِلال الاستحضار الدائم لمعالمها ومُفرَداتها المُنتَشِرة في القرآن الكريم؛ مثل:
قراءة حَقائِق القرآن والسنَّة
- {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} (العلق: 1): إتقان قراءة حَقائِق القرآن والسنَّة والتاريخ والواقع وسنن النفس والمجتمع، قراءةً متَّصِلة بالأخلاق غير منفصلة عنها.
القيام مدرسة الربانيين
- {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} (المزمل: 2): إحياء أجواء مدرسة الليل التي خرَّجَت الرَّبانيِّين على مدَى القرون، المتقلِّبين في أعطاف الترتيل والذِّكر الكثير والبُكاء في الخلوات؛ وذلك لربط الداعية بربِّه بميثاقٍ غليظ، وترقيق قلبه واستِمطار المدد لدعوته. < {قُمْ فَأَنْذِرْ} (المدثر: 2): القيام الحازم غير المُتراخِي بأعباء الدَّعوة، والتعريفُ بالله -تعالى- ودينه ونبيِّه، وردُّ الشبهات، ومحارَبةُ الشَّهوات المحرَّمة، وإنذار البشريَّة من عَواقِب الكفر والإلحاد وتبنِّي الشرائع المحرَّفة.
تجنب الصدام مع المجتمع
- {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (النساء: 77): تجنُّب الصِّدام مع مكوِّنات المجتمع التي ما زالت على غير دِرايةٍ بأهداف الدعوة النبيلة فناصبَتْها العداء، وتلك التي غلبت عليها شقوتها فتمسَّكت بالرُّؤى الخطأ، وتحاكَمت إلى المقاييس الجاهليَّة؛ فخاصمت الدعوة والدُّعاة، وبدلاً من إشعال فتيل الفتنة أو الارتِماء في خطط مَن أشعلوها يتحصَّن الربَّانيُّون بعبادة الله، ويحرصون على إقامة الصلاة التي تُوفِّر لهم الاتِّصال بالله، وتُحقِّق معاني الأخوَّة ووحدة الصفِّ، بهذا يدرَؤُون نُذُرَ الحرب الأهليَّة والاقتِتال الداخلي الذي لن يُمكَّن في النهاية سوى للمشروع المُعادِي للإسلام.
التحلِّي بالصبر
- {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} (البقرة: 153): التحلِّي بالصبر الإيجابي المتَّسِم بمعاني التحمُّل والثَّبات والرويَّة، وعدم الانقِياد وَراء العاطفة وحدَها في مَواطِن الظُّلم السافِر، ولا المُسارَعة إلى رَدِّ الفِعل الحماسي غير مَدرُوس العَواقِب، وإنَّما يستمدُّ هذا الصبر من كثْرة التردُّد على مِحراب الصلاة، وتَعفِير الجبين بين يدي صاحِب الخَلْقِ والأمر - سبحانه وتعالى - وتَقلِيب النَّظر في تَجارِب الأنبِياء، ودِراسَة سِيرَة خاتمهم - عليه الصلاة والسلام.
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ
- {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}(الشعراء: 214): إنَّه الأمر بكفِّ اليد ولاسيما عن قومنا؛ لتجنُّب الفتنة الداخليَّة والحروب الأهليَّة، والاشتِغال بدلاً من ذلك بأداء الواجبات الدينيَّة - وعلى رَأسِها الصلاة - وتَنشِيط الدَّعوة بين أفراد الأسرة والجوار والزَّمالة وروَّاد المساجد والأندِيَة المختلفة وبوسائل التبليغ المُتاحَة كلها، التي تنوَّعَتْ واتَّسعت مساحتها، وليس هذا فِرارًا، إنما هو واجب الوَقت، وليس عملاً ساذجًا، لكنَّه النَّشاط الهادئ الرَّزِين المَدرُوس الخُطوات؛ لإقامة البيوت الإسلاميَّة والاهتِمام بالمُحِيط القَرِيب ليلتَزِم ويكون سنَدًا للدعوة.
وتتعزَّز هذه التربية بالمحافَظة الدَّقيقة على الوِرد القرآني؛ {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (المزمل: 4)، والأذكار والمناجاة؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا - وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (الأحزاب: 41 -42)، وصيام التطوُّع، وتَكثِيف الدَّورات التربويَّة واللِّقاءات الأخويَّة، واستِحضار معاني الآخِرة ولقاء الله - عزَّ وجلَّ - وعرصات الحِساب؛ {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (البقرة: 281)، {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (الحج: 39).
المُقاوَمة والجِهاد
هل يملك المسلمون المضطهَدُون والمحتلَّة أراضِيهم في فلسطين وأفغانستان والشيشان وكشمير ونحوها سوى أنْ يربُّوا أجيالَهم على المُقاوَمة والجِهاد لتحرير الأرض، ودحض العدوان وإعلاء راية الحقِّ؟ هذا من صَمِيم ما تتطلَّبه المرحلة من تربيةٍ إيمانيَّة عميقةٍ واعية؛ لأنَّه ضمانةٌ لبقاء روح الإباء لدى المسلِمين، ورفض اعتِداء الكفَّار على الأرض الإسلاميَّة وعقيدة التوحيد.
هذه القُطُوف القرآنيَّة تُعضِّدها السِّيرة النبويَّة المطهَّرة التي هي الدليل العملي للمسلمين في حركاتهم وسكناتهم، تأخُذ بأيديهم إلى هدْي الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - في جميع مَراحِل الدعوة، وتُبصِّرهم بمواطن الحقِّ في أزمنة الفِتَن.
ولا تُؤتِي هذه التربية ثمارها كلها إلاَّ بإنشاء بديلٍ أسري واجتماعي ينتَظِم أفراد العائلة وأفراد الجماعة المؤمنة، ويتحلَّى بالأمن والحوار والأخوَّة الإيمانيَّة والتعاوُن البنَّاء.
التربية تنير العقول
إنَّ مثل هذه التربية إذا واظَب عليها الدُّعاة كفيلة بإنارة العقول وتزكية النُّفوس وتنشيط الجوارح؛ فتكون نتيجتها تَحصِين الدُّعاة باعتِمادهم على المَدَد الرباني والانتِشار الأفقي؛ ومن ثَمَّ مُساهَمتهم بالمُبادَرات الإيجابيَّة والعَطاء الميداني في بَلوَرة المشروع الإسلامي، وإغاثة المجتمع وإخراج البلاد الإسلاميَّة من أزمتها. إنَّها التربية التي تُمتِّن العلاقة بالله -تعالى- وتُوطِّد الصِّلة بالأمَّة، وتَحُول دون انتِشار الإحباط والسلبيَّة بين الشَّباب القُدوَة، وهذا ما يُشبِه واجب الوقت والفريضة العينيَّة لتَفوِيت الفرصة على المتربِّصين بالإسلام، حتى نَبقَى مشدودين إلى دين الله الحقِّ وميراث الرسول صلى الله عليه وسلم لا يضرُّنا مَن خالَفَنا ولا مَن عادانا إلاَّ ما يُصِيبنا من لأواء، كما جرَتْ سُنَّة الله الماضية في خلقه.
أجل، هي عمليَّة طويلة النَّفَس صَعبة الدُّروب، لكنَّها مضمونة النتائج لِمَن فقه أسرارَ العمل الدعوي، وسارَ على هَدْيِ الأنبياء الكِرام - عليهم السلام - وما أجمل أنْ يَلتَفَّ حولَها الشباب المؤمنون في أزمِنَة الفتنة والتحدِّيات والهرَج؛ فهي عِصمَةٌ لهم حتى لا يَتِيهوا، وهي مَغنَمٌ عظيم تتَصاغَر معه كلُّ المغانم؛ «لأنْ يَهدِي الله بك رجلاً واحدًا خيرٌ لك من حمرِ النَّعَم»؛ حديث رواه البخاري.
لاتوجد تعليقات