رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: محمد أحمد العباد 25 أبريل، 2011 0 تعليق

تراجعات الشيخ محمد بن صالح ابن عثيمين3


باسم الله الذي له المرجع والمصير، {وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير}، المطّلع على السرائر، والمحيط بما في الضمائر، والحمد لله الذي قال في كتابه المكنون: {إنَّ اللهَ مَعَ الذِينَ اتَّقَوْا والذِينَ هُمْ مُحْسِنُون}، والصلاة والسلام على أشرف من كان بمعية الله على خير وَتـِـيـرَة، وعلى آله وصحبه الذين نصرهم {الله في مواطن كثيرة}، وبعد:

       فهذه مسألة أخرى نستكمل فيها سلسلة تراجعات الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله رحمة واسعة، وهي مسألة أثير حولها الكثير من اللغط والتشنيع - قبل ما يقارب (28عاماً) – تلكم المسألة هي: قول الشيخ رحمه الله: «إن معية الله لخلقه هي معية حقيقية ذاتية» فما حكم هذه العبارة الموهمة؟ وما الذي جرى بعد قول الشيخ لهذه العبارة؟ وهل تراجع الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن هذه العبارة؟ هذا ما سنتناوله في النقاط الآتية:

أ – مسلك أهل السنة في الألفاظ المجملة:

       فمن المعلوم أن من مسلك أهل السنة في العبارات المجملة التي تحتمل حقاً وتُوهِم باطلاً، وتقال في صفات الله تبارك وتعالى دون أن تَرِد أصلاً لا في القرآن ولا في السنة: أن يُستفصل من قائلها عن مراده، فإن أراد معنىً صحيحاً قُبل المعنى وإلا فلا.

ب – عبارة «الله معنا بذاته»:

- ومن تلك العبارات المجملة الموهمة: عبارة «الله معنا بذاته»، وهي وفق تأصيل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تحتمل معنيين:

1 - معنى باطلا: أن يكون معنى قوله: «معنا بذاته» أي: أن الله بذاته هو الموجود معنا في نفس المكان ، فهذا هو المعنى الذي لا شك في بطلانه(1).

2 - معنى صحيحا: أن يكون معنى قوله: «معنا بذاته» أي: أن الله بذاته هو العالم والمحيط بنا، أو أنه بذاته سبحانه الناصر والمدبِّر لنا، ونحو ذلك من مقتضيات صفة المعية.

جـ – استعمال الشيخ ابن عثيمين للعبارة السابقة وما تبعه من عواقب ونتائج:

      لقد استعمل الشيخ ابن عثيمين هذه العبارة (المعية الذاتية) وأراد بها المعنى الثاني (الصحيح) ، فنتج عن ذلك اختلاف - هو باعتقادي اختلاف لفظي فقط - بين الشيخ ومخالفيه في لفظة (بذاته): هل يلزم منها ذلك المعنى الباطل (الأول في الفقرة السابقة) بحيث لا تحتمل سواه أم لا؟ (مع اتفاق الطرفين على بطلان ذلك المعنى).

       أما مخالفوه فرأوا بأنه: يلزم منها ذلك المعنى الباطل وإن صرّح الشيخ ابن عثيمين رحمه الله مراراً بعدم اعتقاده له، بل شنّعوا عليه حتى قال الشيخ ابن باز رحمه الله - كما في مجموع فتاواه (28 / 397): «حضر عندي جماعة من المشايخ وذكروا لي أن كثيرا من العامة وأشباههم في بريدة يشنعون كثيرا على فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين بسبب ما نسب إليه من قوله: «إن معية الله مع عباده ذاتية»، وهكذا بعض طلبة العلم يشنعون عليه بسبب ذلك». اهـ.

       كما ألَّف فضيلة الشيخ حمود التويجري رحمه الله كتابه «إثبات علو الله ومباينته لخلقه والرد على من زعم أن معية الله للخلق ذاتية» قاصداً الرد على الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تحديداً.

        ويذكر أيضاً فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك حفظه الله في تعليقه على القواعد المثلى (شريط : 12) بعضَ ما أعقَبَ استعمالَ الشيخِ لتلك العبارة من مواقفَ فقال حفظه الله: أطلق – أي الشيخ ابن عثيمين - كلمة (المعية الذاتية) فتلقفها بعض الناس، ربما بحسن نية , فحمل على الشيخ وبدَّعه وشنَّعَ عليه! وكتب بعض الرد عليه!

        والكلمةُ التي تكون مشتبهة تُرَدُّ إلى بقية كلام العالم, أما أن تقطع الكلمة عما قبلها فلا, بل لابد من رد الكلام بعضه إلى بعض، ورد المتشابه إلى المحكم الواضح البيِّن؛ فالشيخ ابتلي، وأوذي بالتشنيع عليه، وأنه يقول بقول الجهمية ونحوهم! لكن كلامه واضح, ومن يعرف الشيخ لا يرتاب ولا يكون عنده مشكلة أبدا. اهـ.

د – موقف الشيخ ابن عثيمين من استعمال تلك العبارة:

- أما الشيخ ابن عثيمين رحمه الله فقد كان له تجاه هذه العبارة موقفان:

1 - الموقف الأول: جواز إطلاق إضافة كلمة (الذاتية) على صفة (المعية):

        حيث قال رحمه الله: «عقيدتنا أن لله تعالى معية حقيقية ذاتية تليق به وتقتضي إحاطته بكل شيء علماً وقدرة وسمعاً وبصراً هو العلي بذاته وصفاته». وانظر: شرح القواعد المثلى (ص293).

2 - الموقف الثاني: التراجع عن استعمال تلك العبارة :

         وأصرح ما يدل على تراجع الشيخ عن هذه العبارة سنجده في قول شيخه الشيخ ابن باز - رحم الله الجميع – حيث قال كما في فتاواه (28/397): «بعض طلبة العلم يشنعون عليه، يعني على الشيخ ابن عثيمين بسبب ذلك، مع العلم بأنه قد رجع عن قوله هذا عندي وعند جماعة غيري». اهـ.

         وكذلك في قول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في القواعد المثلى (ص294 مع الشرح): «ورأيت من الواجب استبعاد» ذاتيةً؛ لأن كل كلام يوهم ولو عند بعض الناس ما لا يليق بالله تعالى فإن الواجب تجنبه». اهـ، ويقول رحمه الله في رسالةٍ أرفقها وطُبعت أيضاً مع كتاب الشيخ التويجري (إثبات علو الله ص157 إلى ص159) وَرَدَ في آخرها ما نصه: «وإنكار معية الله الذاتية واجب حيث تستلزم القول بالحلول؛ لأن القول بالحلول باطل، فكل ما استلزمه فهو باطل يجب إنكاره وردُّه على قائله كائنًا مَن كان ... قاله كاتبه : محمد الصالح العثيمين في 15/4/1404هـ»اهـ.

هـ - لماذا تجنب الشيخ تلك العبارة أو تراجع عنها كما يقال؟

       الظاهر: أن الشيخ إنما تجنب هذه الكلمة لئلا يُظن فيها خلاف مقصوده فقط، وليس لاعتقاده بأنها خطأٌ في ذاته؛ فلو تأملنا كلام الشيخ الوارد في الفقرة السابقة في قوله: «.. حيث تستلزم القول بالحلول..» إلخ، لوجدنا مفهومه: أن لفظة (المعية الذاتية) إذا لم تستلزم القول بالحلول فإنها لا تعتبر باطلة؛ فلذلك يقول الشيخ رحمه الله في شرح القواعد المثلى (ص295): «ولا شك أنها – يعني النصوص من القرآن والسنة -  تدل على أنه سبحانه معنا هو نفسه ولكنه فوق السموات ولا منافاة؛ لأن الله تعالى لا يقاس بخلقه، وعلى كل حال: نرى الآن أن كلمة ذاتية تجب إزالتها لئلا يتوهم متوهم أن قولنا هذا هو ما يريده أهل التعطيل وأهل الحلول... ولئلا توقع الناس وتوهم باطلاً ولو بعد أزمانٍ طويلة؛ فالكتب تبقى ويفنى الكاتب، فربما يأتي أحد فيقول: «هذا كلام فلان» فإذا أزيلت الكلمة الموهمة وأُتي بالكلام الذي يدل عليه القرآن والسنة زال المحذور، والله أعلم». اهـ.

        ويؤكد ذلك أيضاً أن الشيخ رحمه الله لما سئل عام 1417 هـ في لقاء الباب المفتوح (رقم: 142، سؤال: 1) عن كتاب الشيخ التويجري – وربما غيره – حيث قال السائل: أخذت كتاباً من مكتبة المدرسة يقول فيه صاحبه: إنه يرد على فضيلتكم في قضية قديمة مطبوعة، يقول: إنكم تقولون: معية الله للخلق معية ذاتية، أرجو الفصل في هذه القضية، وهل يقرأ هذا الكتاب أم لا يقرأ؟

       فكان جواب الشيخ رحمه الله: «نحن تكلمنا على مسألة المعية... ونقول: هو معنا وهو في السماء، فهو معنا حقيقة وهو في السماء، ولا منافاة(2)، وذكرنا أدلة على ذلك، منها سياق الآيات الكريمة، مثل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فالضمائر هذه كلها تعود إلى الله، فإذاً هو ذات، لكن بعض الناس فهم من هذا فهماً خطأً - ونحن بريئون منه والحمد لله من أول عقيدتنا إلى أن نلقى الله عز وجل – وهو أننا نقول : إن الله معنا في الأرض!

       هذا لا نقول به إطلاقاً، ففهم بعض الناس هذا الفهم، وإذا فُهِمَ هذا فلا شك أن هذا منكر يجب إنكاره، فهو إذا كانت نيته حسنة لا يلام على هذا، وإن كان سيئاً فالله يتولى السرائر». اهـ.

هوامش :

1 - قال الشيخ رحمه الله: بيَّن السلف أنه لا يراد من المعية كون الله معنا بذاته ؛ فإن هذا محال عقلاً وشرعاً. انظر: فتح رب البرية (ضمن مجموع الفتاوى والرسائل 4/26).

2 - قال الشيخ رحمه الله ضمن جوابه: لا منافاة بين العلو والمعية، قد يكون الشيء معك وهو بعيد عنك؛ ولهذا العرب كان من كلامهم أنهم يقولون: ما زلنا نسير والقمر معنا، ما زلنا نسير والقطب معنا، وما أشبه ذلك، ومن المعلوم لكل أحد أن موضع القمر والقطب في السماء، وتطلق العرب عليه أنه معها، ولا يرون هذا منافياً لهذا، وإذا كان لا منافاة في العلو والمعية في حق المخلوق ففي حق الخالق من باب أولى.

كما أن الله تعالى محيط بكل شيء، السموات السبع والأرضين السبع في كفه عز وجل كخردلة، ويوم القيامة يطوي الله سبحانه وتعالى {السماء كطي السجل للكتب}، ويقول عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً} (الزمر: 67)، كل الأرض بما فيها من بحار وأنهار وأشجار وغيرها {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (الزمر: 67)، كل السموات السبع التي لا يعلم قدرها إلا الله عز وجل {مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} فالله عز وجل محيط بكل شيء. اهـ.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك