رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر المحلي 19 سبتمبر، 2018 0 تعليق

تراث الجهراء استضافته في دورة علمية عن أصول الفقه – الموصلي: مفهوم المحرم والمكروه في الشريعة الإسلامية

ضمن سلسلة الحلقات لدورة الشيخ د. فتحي الموصلي حول شرح الورقات في أصول الفقه التي نظمتها جمعية إحياء التراث الإسلامي -فرع محافظة الجهراء- ولمدة يومين متتاليين، يسر مجلة الفرقان، أن تستكمل هذه السلسلة بحلقتها الثالثة، بالتعاون مع فرع الجهراء التي تناول فيها الشيخ مفهوم المحرم والمكروه في الشريعة الإسلامية.

     أوضح الشيخ الموصلي مفهوم المحرم بأنه عكس الواجب؛ ففي الواجب الشرع يريد منا الفعل، وفي المحرم، أو كما نسميه الحرام، أو المحظور يريد منا الشرع ترك الفعل؛ ولهذا الحرام يعرفه العلماء: (ما طلب الشارع تركه تركا جازما)،  أو بمفهوم آخر (ما يعاقب فاعله، ويثاب تاركه إن تركه امتثالا) ، وأضاف الموصلي أن شريعتنا السمحة في تشريع ما محرم لها، منهج عظيم وسديد، وهو أنها لا تحرم الشيء إلا لذاته وفي نفسه، وتحرم كل وسيلة موصلة إليه، وتحرم كذلك قليله وكثيره، وتُحرم كل جزء من أجزائه؛ فمبنى التحريم على سد الذريعة؛ لئلا تقع في الحرام، وتلك هي تربية ربانية؛ لأن الشريعة تنهاك عن شيء قد لا يكون حراما في نفسه بل، خشية أن يكون مفضيا إلى الحرام .

الشريعة وتبيان الحرام

     وبيّن الموصلي أن الشريعة في تبيان الحرام، قد ميّزت بين أمرين: بين ما يُحرّم لمفسدته، وبين دواع موجودة في النفس إليه، وضرب مثالا لذلك: أن الشريعة حرّمت النجاسات، ولحم الخنزير، والأصنام، والظلم؛ لأن فيها مفسدة، ولكن لا توجد شهوة في النفس إليها، ودواع من النفس إليها، لكن الشريعة كذلك، حرمت الخمر والزنا، والربا، وهذه الآفات فيها مفسدة،  لكن فيها شهوة ودواع من النفس إليها، وهذا ملحظ تربوي، يجب الالتفات إليه في تناول المحرمات؛ فالمحرمات التي فيها مفسدة ولا تشتهيها النفس؛ فالحرام فيها لعينها ولذاتها؛ فمثلا الأصنام محرمة، لكن الشريعة لا تُحرم التراب الذي صُنع منها، وكذلك حرمت الخنزير، لكنها لا تُحرم المرور من المكان الذي تُربّى فيه الخنازير، أما المحرمات التي فيها دواعي شهوة في النفس إليها، كالزنا، والخمر، هي محرمة لذاتها ولكل الوسائل الموصلة إليها؛ ولهذا قال -تعالى-: {ولا تقربوا الزنا}؛ وكذلك حُرمت الخمر، وجميع الوسائل المؤدية إليها، كعاصرها، ومقدمها، وغيرها لذلك أراد ديننا الحنيف، أن يقطع كل طريق مؤد إليه .

الفائدة من هذا التقسيم

     وبيّن الموصلي أن الفائدة من هذا التقسيم الفقهي، أن يُربّى المرء المسلم في حال إنكاره المنكر على أنه لا بد أن يفرّق بين المحرم الذي هو مفسدة بعينه؛ فيُزال بذاته وبين المنكرات التي تشتهيها النفوس، وهناك دواعي شهوة إليها؛ فيُمنع كل ما يؤدي إليها مشيرا إلى حكمة الشريعة، أنّ المُحرّمات التي تشتهيها النفوس، فيها حد، وذلك بعد تحريك الوازع الإيماني والنفسي، والدليل حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الذي أراد الوقوع في الزنا، قال له: «أتقبله على أختك ..»؛ وكذلك بتحريك الوازع السلطاني، والوازع القرآني، والوازع الاحتياطي؛ وذلك لمنع الحرام والوقوع فيه، موضحا أن باب الزنا حرّمت فيه الشريعة النظرة والخلوة،  أما المحرمات التي لا تشتهيها النفوس ليس فيها حد؛ فتركها الشرع للوازع الإيماني، والنفسي للمرء المسلم.

أسباب التحريم في الشريعة

      وامتدادا لأسباب التحريم في الشريعة الإسلامية بيّن الموصلي، أن هناك ما هو محرم قصداً، وبين ما هو محرم سداً للذريعة؛ إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»، ويتساءل الموصلي: ألا ترون  هنا أن النهي غير الأمر، أي الواجب غير الحرام؛ ففي الأمر أنتم مطالبون بفعل ما تستطيعون، أما النهي يأتي لاجتنابه كاملا؛ فالنهي والترك لا يحتاج إلى فعل، وبالتالي كل إنسان يستطيع أن يترك المحرمات والمنهيات، ومن يقول غير ذلك؛ فهذا من باب تلبيس إبليس عليه؛ ولذا من حكمة ديننا الحنيف، أنه جعل بمقدور الإنسان أن يترك الحرام على الدوام؛ لأن الاجتناب لا يحتاج إلا لترك، لكن فعل الواجب، مقيد بالاستطاعة؛ لذلك لا واجب إلا مع القدرة؛ فإذا ابتلي العبد بالحرام؛ فالواجب عليه الترك على الفور؛ فإذا طولب بواجب ما فيفعل ما يستطيع، وشاهده قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صلِّ قائما؛ فإن لم تستطع فقاعدا..»، وقول الله -عز وجل-: {فاتقوا الله ما استطعتم}؛ فالواجب عليك أن تفعل في حدود الاستطاعة؛ لذا تأتي للمرء المسلم الابتلاءات من باب عدم ترك ما هو محرم .

وقفة مع الشباب

     وعاب الموصلي على كثير من الشباب الذين يقتحمون ساحة الدعوة، بالشروع في واجبات غير معان على فعلها، ومن فعل ما لا يُعان عليه دخل في دائرة الابتلاء؛ ففي الصلاة من فعل من النوافل، ما لا يُعان عليه، أدى إلى الفتور، وربما إلى ترك الواجب، ومن صام الدهر، رغب عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وربما دخل في الرهبانية؛ لذلك المسلم في باب الطلب والفعل، لا نقول له: افعل الواجب، ولكن نقول له: افعل ما تستطيع من الواجب؛ لأن الواجب يحتاج إلى جهد ومجاهدة،

أما ما هو محرم سداً للذريعة؛ فهو قد لا يكون حراما في نفسه، ولكن يمنع خشية أن يؤدي إلى الحرام، كالنظرة للمرأة الأجنبية؛ فحُرّم النظر لها خشية الوقوع في الفتنة، وهناك محرمات حُرّمت قصدا أي هي لذاتها محرمة وهي الأشد تحريما .

تقسيم مهم لطالب العلم

     وأوضح الموصلي أنه مهم لطالب العلم أن يقسم جميع المحرمات على هذه القسمة، ولا يتأصل فهم الحرام، إلا بتوزيع هذا التقسيم على المحرمات؛ فالشرك، والخمر، والقتل، أوالظلم، هذه محرمات لذاتها، وهناك محرمات سدا للذرائع، مثل النظر للأجنبية، ولبس الحرير للرجال، وتحريم الصور، وسفر المرأة من غير محرم .

     ما حُرّم سدا للذريعة يباح عند وجود مصلحة، أو حاجة، وما حرم قصدا لا يباح إلا عند الضرورة؛ فالشريعة محكمة مثال: لبس الحرير محرم على الرجال سدا للذريعة؛ فلو كان محرما، لحُرم على النساء، ولا يباح للرجال إلا لمصلحة؛ لذا اشتكى أحد الصحابة من حكة في ظهره؛ فرخص له النبي صلى الله عليه وسلم لبس الحرير، وكذلك لبس الذهب للرجال محرم سدا للذريعة؛ لأنه يفضي إلى الخيلاء، ويؤدي إلى التشبه بالنساء، وكذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس سدا للذريعة، ولكن تباح عند الحاجة، كتحية المسجد، والاستخارة، وما شابه ذلك .

باب المكروهات

     وذكر الموصلي في باب المكروهات قول ابن تيمية -رحمه الله-: «أن العبد لا يقع في المعصية إلا من بابين إما بفكرة فاسدة أو فراغ في الوقت»، وأوضح أن الفكرة الفاسدة تكون على هيئة خواطر وظنون، وقد تجتمع الفكرة الفاسدة والفراغ في الوقت، ولاسيما مع الشباب؛ ولذا أصّل العلماء المكروهات؛ لأنها ذريعة للوقوع في الحرام .

مفهوم المكروه

     وفي معرض باب المكروهات بين الموصلي مفهوم المكروه، هو الذي إذا فعلته لا تأثم، وإذا تركته تؤجر، وذكر الموصلي حديث النبي صلى الله عليه وسلم : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليقل خيرا أو ليصمت»، مبينا أن هذا الحديث يشتمل على ثلاثة أمور، الأول أن تقول: خيرا، أي أن تقول قولا فيه منفعة، أو تصمت، أو تقول قولا ليس فيه ضرر، أو  تقول قولاً لا خير فيه، ولا شر؛ فهذا هو المكروه، والسكوت أولى منه، وهكذا يفهم الحديث؛ فذكر النبي[ في هذا الحديث، ما هو ممدوح، وهو قول الخير، أو السكوت، وهو الترك، وهذا هو المطلوب، ولا يكون هذا إلا لمن آمن بالله واليوم الآخر، أما الأمر المذموم غير المذكور أن تقول قولاً فيه شر وهذا حرام؛ فالسكوت أولى، وهذا هو المكروه، وفقه الحديث يدل على أن من تكلم خيرا، أو سكت؛ فقد أتى بالواجب، أو المستحب، أو من تكلم بكلام ليس فيه منفعة؛ فهذا قد أتى، إما بالحرام، أو بالمكروه؛ لهذا أيهما أفضل، رجل ساكت، أم رجل يتكلم بلا منفعة في حديثه؟؛ فالسكوت أفضل بنص الحديث؛ لأن الحديث المستمر مع مرور الوقت سيفضي للمفسدة؛ ولهذا القاعدة الفقهية تقول: إن فعل المكروه بلا منفعة سيفضي إلى الوقوع في الحرام؛ ولذلك الشريعة لما أمرت النساء بالمكوث في البيت لأجل هذا المعنى حتى لا يكون خروجهن المكروه مفضيا إلى مفسدة محرمة .

كل فعل يخلو من المنفعة، ولا يفعل إلا عبثاً يدخل في المكروه، وهذا يدل على عظمة شريعتنا التي تراعي جانب المنافع، والظفر بالأوقات، والابتعاد عن الشبهات، وترك ما لا مصلحة فيه، ولا منفعة .

لا مكروه مع الحاجة

     وشرح الموصلي قاعدة فقهية مهمة في باب المكروهات التي تقول : (لا مكروه مع الحاجة). أي أن الحاجات تزيل المكروهات، وهي قاعدة مهمة، وأوضح أن المرء المسلم إذا فاضل بين المكروه وبين الحاجة لفعله؛ فيُقدم حاجته، والصحيح أنك تقدم حاجتك، وتفعله ولو كان مكروها، وضرب مثلا لذلك، بعض الفقهاء من الحنفاء أن الماء الذي يُسخّن للدواب، يكره الاغتسال فيه؛ لأن قد ينتقل نجاسة منه؛ فتقع بعض آثاره فيه؛ فعندهم أن هذا الاغتسال فيه والوضوء منه على الكراهة، لكن قيدوها بأن الإنسان إذا احتاج لغسل واجب فتزول كراهته، بل الإصرار على تركه مع الحاجة إليه نوع من التكلف والتنطع في العبادات.

مثال معتبر

     وضرب مثلا لرأي فقهاء حول المرأة الحائض التي لا يجوز لها أن تقرأ القرآن، لكن ماذا لوكانت معلمة تعلم القرآن، أو تحتاج لمراجعة حفظها، هنا يجوز لها أن تقرأ القرآن؛ لأنه لا كراهة مع الحاجة، وكذلك بعض الأمور قد تُكره على النساء، كأفعال المرأة مع زوجها، إما جائزة. أي مباحة، وهو الأكثر ثم بعض الأفعال محرمة، كاللعن، وبعضها على الكراهة، لكن كل ما يحتاج إليه الزوج من مكروهات المرأة تفعلها ولا حرج؛ لأن اعتبار حاجة الزوج، أمر معتبر في شريعتنا؛ فلها أن تفعل المكروه إذا احتاج الزوج إلى فعله، وهذا مقيد بالمكروهات فقط، وكذلك في التعليم، قد يذهب طالب لاستكمال دراسته في الخارج؛ فهو يكون بين أمرين، بين حاجة التعليم، والملائمة في البلد المبتعث إليه، وبين فعل هذه المكروهات؛ فيقال له لا كراهة مع الحاجة؛ لأن التعليم وطلبه في شريعتنا السمحة من المصالح الشرعية المعتبرة، فلا حرج في فعل المكروه، أو ما حرم سدا للذريعة، ما دام أن الدافع والداعي لفعله طلب مصلحة، أو حاجة معتبرة لذلك تلبية الحاجات في شريعتنا داخل في الواجب، وإذا تعارض كلاهما؛ فيُقدم الواجب على المكروه .

الفتوى اليوم

     ونحن نسوق هذا، نُبيّن أن هذا حكم، وتنزيله على الواقع يرجع على الفتوى؛ فنحن نتكلم عن المعنى العام؛ لذلك نقول الفتوى اليوم، بين الإفراط والتفريط، بين ناظر في الفقه متفقها، لا يجيز شيئاً، ولا يبيحه البتة، وعنده الأصل في الأفعال والأقوال جميعها على الحُرمة، وعلى العكس من ذلك تجد عند متفقه أن الأصل في كل شيء افعل ولا حرج؛ فالأمر لكي يكون منضبطا، يُنظر إلى نوع التحريم، ونوع المُعارض من المصلحة، أو الحاجة، أو الضرورة، والنظر في حال المُكلّف؛ فهذه الأمور الثلاثة ينبغي للمفتي أن يراعيها في الفتوى؛ فجزء منها يتعلق بالحكم، وجزء يتعلق بالحاجة والمصلحة، وجزء يتعلق بالمكان والزمان؛ فلا يجوز أن تُكلّف مبتدئاً، وقد انتُقص إيمانه، وضعفت حجته، وضاقت به السبل من كانت في بلدٍ الحجة والإيمان، والعلم ظاهرة فيه .

تحديد المصلحة

     وذكر الموصلي أنه: لا يجوز ترك تحديد المصلحة، وتعيينها لعوام الناس، أو للمبتدئين من طلاب العلم؛ فاعتبار المصلحة يُرجع لأهلها، إن كانت حكما شرعيا يرجع فيها للعلماء، وإن كانت حكما عُرفيا، أو عاديا، أو عقليا يُرجع فيها لأهل الاختصاص؛ فلذلك نجمع بين التأصيل، والتنزيل؛ فعلى الفقيه أن يجمع بين القواعد الكلية في الفتوى، وبين تنزيلها على أرض الواقع .

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك