تحقيق نسبة التكفير إلى ثلاثة من أعيان الدعاة إلى منهج السلف (3)
دأب بعض العصرانيين على تلميع المعتزلة ووصفهم بالفكر المستنير المنفتح في مقابل الفكر السلفي المتشدد المنغلق متجاهلين حقيقة أن المعتزلة هي إحدى فرق الغلو في الوعيد والتكفير
أهل السنة أرحم الخلق بالخلق وهم على الحق ويرحمون من خالفهم وغيرهم على الباطل
لا يعرف عن دعوة من الدعوات نفرتها من الفكر التكفيري كما عُرف عن الدعوة السلفية عبر تاريخها الطويل وامتدادها الجغرافي في العالم الإسلامي، سواء على نطاق التنظير أم الممارسة العملية، وبإمكان أي باحث أن يعقد مقارنة بين نسبة التكفير عند السلفيين لخصومهم ونسبته عند الفرق المخالفة، وعندها يقف المرء متحيراً، كيف أُلصِقَت هذه التهمة بالسلفية والسلفيين؟! واستكمالا لهذا الموضوع نتكلم اليوم عن موقف شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- من التكفير.
قال رحمه الله: «وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا أو لم يكفر ويقاتل؟ سبحانك هذا بهتان عظيم».
هذا النص المحكم لم يُقْنِع كثيراً من خصوم الشيخ لنفي فكرة التكفير بالعموم التي نفاها بنفسه مراراً وتكراراً فقال أيضا: «ما ذكر لكم عني أني أكفر بالعموم، فهذا من بهتان الأعداء، وكذلك قولهم: إني أقول: من تبع دين الله ورسوله وهو ساكن في بلده أنه ما يكفيه حتى يجيء عندي، فهذا أيضاً من البهتان، إنما المراد اتباع دين الله ورسوله في أي أرض كانت، ولكن نُكَفِّر من أقَرَّ بدين الله ورسوله ثم عاداه وصدّ الناس عنه، وكذلك من عبد الأوثان بعدما عرف أنه دين المشركين، وزيَّنه للناس؛ فهذا الذي أكفره وكل عالم على وجه الأرض يكفر هؤلاء إلاّ رجلاً معانداً أو جاهلاً».
وقال أيضاً: «وأما ما ذكر الأعداء عني أني أكفر بالظن وبالموالاة أو أكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة؛ فهذا بهتان عظيم يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله».
رسائله وردوده
ورسائله وردوده على الافتراءات التي رُوِّجَت على دعوته كثيرة ومدونة، والاعتماد عليها لتكوين تصور عن دعوته -رحمه الله- هو فعل الباحث المنصف بدلاً من التنقيب في حكايات الإخباريين التالفة والاعتماد على كلام خصومه الذين اعتمدوا على شائعات -مع الأسف- ولم يتحققوا من الأمر بأنفسهم .
تَعَامُلُ السلفيين مع الفرق المخالفة
بَيْدَ أننا نريد الانتقال إلى نقطة أخرى، وهي: كيف تَعَامَلَ السلفيون مع الفرق المخالفة حينما دانت لهم الدولة والسلطة؟ وهي نقطة كاشفة ولاسيما إذا ما قورنت بسلوك خصومهم معهم !
لا يخفي علي أحدٍ ما جرى للإمام أحمد من فتنة في زمن المعتصم والمأمون والواثق، تولى كِبَرها رجال المعتزلة المقربون من القصر، الذين مارسوا أبشع صور الإكراه الديني، وعقدوا محاكم التفتيش، وامتحنوا العامة والعلماء على بدعتهم؛ ولما ولي المتوكل كشف الله به الكربة، وأكرم الإمام أحمد إكراما زائدا جدا -كما يقول ابن كثير في البداية والنهاية- لم نسمع عن موجات انتقام ولا محاكم تفتيش تلاحق المخالفين وتكرههم على معتقد أهل السنة ،بل المعروف عن أحمد رحمه الله عفوه وصفحه عمن آذاه !
وموقف ابن تيمية من علماء عصره لما حصل خلاف بينهم وبين السلطان يحكيه بعض تلامذته فيقول: «وسمعت الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله- يذكر أن السلطان لما جلسا -يعني السلطان وشيخ الإسلام- بالشباك أخرج من جيبه فتاوى لبعض الحاضرين في قتله واستفتاه في قتل بعضهم، قال: ففهمت مقصوده وأن عنده حنقا شديدا عليهم لما خلعوه وبايعوا الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، فشرعت في مدحهم والثناء عليهم وشكرهم وأن هؤلاء لو ذهبوا لم تجد مثلهم في دولتك، أما أنا فهم في حل من حقي ومن جهتي وسكنت ما عنده عليهم، قال فكان القاضي زين الدين ابن مخلوف قاضي المالكية يقول بعد ذلك ما رأينا أتقى من ابن تيمية، لم نبق ممكنا في السعي فيه؛ ولما قدر علينا عفا عنا» العقود الدرية ص ٢٩٨.
عهد الدولة السعودية
وأما في عهد الدولة السعودية التي قامت على أسس دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فلم يُعرف عنها قط أنها أقامت محاكم التفتيش، ولا أكرهت المواطنين من غير السنة على تغيير معتقداتهم الباطلة ، مكتفية بالدعوة إلى السنة والتحذير من البدع وأهلها، ومنع الاجتماعات التي تخالف السنة وتستفز جموع السكان السنة.
وقد كان حاضرا في ذهن قادتها أن الحذر من البدعة وأهلها لا يمنع من التعايش بين الطوائف كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله- «والناس يعلمون أنه كان بين الحنبلية والأشعرية وحشة ومنافرة، وأنا كنت من أعظم الناس تأليفًا لقلوب المسلمين وطلبًا لاتفاق كلمتهم واتباعًا لما أمرنا به من الاعتصام بحبل الله، وأزلت عامة ما كان في النفوس من الوحشة وبينت لهم أن الأشعري كان من أجل المتكلمين المنتسبين إلى الإمام أحمد -رحمه الله- ونحوه، المنتصرين لطريقه، كما يذكر الأشعري ذلك في كتبه.
ثم قال: وكنت أقرر هذا للحنابلة وأبين أن الأشعري وإن كان من تلامذة المعتزلة ثم تاب، فإنه كان تلميذ الجبائي ومال إلى طريقة ابن كلاب وأخذ عن زكريا الساجي أصول الحديث بالبصرة، ثم لما قدم بغداد أخذ عن حنبلية بغداد أمورًا أخرى، وذلك آخر أمره كما ذكره هو وأصحابه في كتبهم».
مقارنة بسيطة
إن مقارنة بسيطة بين كل ما قدمنا، وما هو متقرر عند الطوائف الأخرى في تكفيرهم لمن خالفهم ، تجعل المرء يقف حائراً: كيف تلصق تهمة التكفير بالسلفية ولاسيما ممن هو غارق في التكفير ؟!
وهناك بعض الطوائف البدعية يقررون بكل وضوح كفر جميع أهل السنة ، ولم يسلم من ذلك غلاة الأشاعرة ولولا الإطالة لأوردت بعض ما تصرح به كتب عقيدتهم من اتهامه بالزندقة والكفر والضلال.
ومن الأمثلة المعاصرة كتب الكوثري ومقالاته، وكتاب براءة الأشعريين وكتاب ابن تيمية ليس سلفياً، وبعض ما في كتاب أركان الإيمان، فيا عجباً لهؤلاء القوم يُكَفِّرُونه ثم يدَّعُون أنهم وإياه على مذهب واحد، ويشملهم جميعاً اسم (السنة والجماعة).
وقال السبكي واصفاً ابن القيم: «فهو الملحد لعنه الله وما أوقحه وما أكثر تجرؤه أخزاه الله» (السيف الصقيل(٣٧)، وكذا وصف بعضهم كل من قال بالاستواء على العرش بالكفر!! والقول بعدم صحة إيمان المقلد، وهو عندهم كل من آمن دون النظر في الأدلة العقلية الكلامية فكفروا بذلك عموم الأمة ولا حول ولا قوة إلا بالله ، قال الشيرازي – وهو من أئمة المذهب الأشعري «فمن اعتقد غير ما أشرنا إليه من اعتقاد أهل الحق المنتسبين إلى الإمام أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه فهو كافر، ومن نسب إليهم غير ذلك فقد كفرهم فيكون كافرا بتكفيره لهم».
والغلو هنا من جهتين: إطلاقه أن من خالف اعتقاده اعتقاد الأشعري كفر، مع أنه – إنصافا – يمكن تأويله بما أورده في مجمل الاعتقاد من أصول الإيمان، الثانية: تكفيره باللوازم؛ حيث ادعي أن من نسب إليهم غير ذلك فقد كَفَّرهم، وهو غير لازم أصلا! ولو كان لازما فالتكفير باللوازم باطل، ثم تكفير المسلم تأولا ليس بكفر!!
وقد شنع الغزالي على غلو بعض المتكلمين، فقال: «من أشد الناس غلواً وإسرافاً، طائفة من المتكلمين كَفَّرُوا عوام المسلمين، وزعموا أن من لا يعرف الكلام معرفتنا، ولم يعرف الأدلة الشرعية بأدلتنا التي حررناها، فهو كافر؛ فهؤلاء ضيقوا رحمة الله الواسعة على عباده أولاً، وجعلوا الجنة وقفاً على شرذمة يسيرة من المتكلمين، ثم جهلوا ما تواتر من السنة».
تلميع المعتزلة
وقد دأب بعض العصرانيين العقلانيين على تلميع المعتزلة ووصفهم بالفكر المستنير المنفتح في مقابل الفكر السلفي المتشدد المنغلق، متجاهلين حقيقة أن المعتزلة هي إحدى فرق الغلو في الوعيد والتكفير، فضلا عن التكفير بما سبق عند الأشاعرة لاشتراكهم في أسس المنطلقات الكلامية، انفرد المعتزلة بالقول بأن مرتكب الكبيرة فاسق خرج من الإيمان بالكلية وهو في الآخرة مخلد في النار فوافقوا الخوارج في المآل، وقد انقسمت المعتزلة لفرق شتى تصل إلى عشرين فرقة كل فرقة منها تكفر سائرها.
ويكفيك هذا النقل الذي يبين مدى تجرؤ هؤلاء على تكفير مخالفهم، قال أبو الحسين الملطي ت ٣٧٧هـ – حاكيا الخلاف بين بعض فرقهم: «فأما الذي يُكَفِّرُ فيه معتزلةُ بغداد معتزلةَ البصرة فالقول في الشاك والشاك في الشاك، ومعنى ذلك أن معتزلة بغداد والبصرة وجميع أهل القبلة لا اختلاف بينهم أن من شك في كافر فهو كافر؛ لأن الشاك في الكفر لا إيمان له؛ لأنه لا يعرف كفرا من إيمان؛ فليس بين الأمة كلها المعتزلة ومن دونهم خلاف أن الشاك في الكافر كافر، ثم زاد معتزلة بغداد على معتزلة البصرة أن الشاك في الشاك والشاك في الشاك إلى الأبد إلى ما لا نهاية له كلهم كفار، وسبيلهم سبيل الشاك الأول، وقال معتزلة البصرة الشاك الأول كافر؛ لأنه شك في الكفر والشاك الثاني الذي هو شاك في الشك ليس بكافر، بل هو فاسق لأنه لم يشك في الكفر إنما شك في هذا الشاك أيكفر بشكه أم لا؟ فليس سبيله في الكفر سبيل الشاك الأول، وكذلك عندهم الشاك في الشاك والشاك في الشاك إلى ما لا نهاية له كلهم فساق إلا الشاك الأول فإنه كافر، وقولهم أحسن من قول أهل بغداد».اهـ كتاب التنبيه والرد .فاقرأ مثل هذا وسل الله العافية مما ابتلاهم به واحمده على نعمة السنة والإسلام .
وإذا كان هذا حالهم مع بعضهم، فليس مستغربا ما صنعوه مع الإمام أحمد وعلماء زمانهم وتحريضهم الخليفة على قتله، ونشرهم لمحاكم التفتيش على طريقة الكنيسة في القرون الوسطى ، ثم يهرف بعضهم بما لا يعرف معظماً لهؤلاء الغلاة الوعيدية !!
فأهل السنة أرحم الخلق بالخلق، وهم على الحق، ويرحمون من خالفهم وغيرهم على الباطل، ويكفرون من خالفهم، وليس فريق من فرق المخالفين إلا وفيهم تكفير بعضهم لبعض وتبري بعضهم من بعض».
لاتوجد تعليقات