رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. محمد احمد لوح 13 يناير، 2019 0 تعليق

تحديات الدعوة السلفية.. أسباب وحلول (2)


ذكرنا فيما مضى أن الدعوة السلفية  هي دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وخلاصة حقيقة هذه الدعوة، توحيد الله في أفعاله وفي أسمائه وصفاته، وتوحيد المرسلين في المتابعة؛ فلا ابتداع في الدين، ولا تعصب لرأي أو مذهب، بل ينبغي التخلق بأخلاق السلف في إحياء الأخوة في المعاملات الاجتماعية والمالية ونحوها، والحرص على الإخلاص والبعد عن الرياء، واليوم نستكمل الحديث عن أهم التحديات التي تواجه هذه الدعوة المباركة.

تحديات المناوئين

     وقف المشركون من دعوة رسـول الله صلى الله عليه وسلم موقفا لا يتغير في جوهره وهدفه، فهو العداء المستحكم، والسعي الحثيث إلـى قتل الدعوة في مراحلها المختلفة، إلا أن هذا الهدف قد ظهر في أساليب متعددة، تتخذ مرحلّية جـلـية في العداء، وسأشير إلى المرحلية التي سلكها الـمـشركون في العداء، معرجًا على موقف أهل الحق -متمثلين في رسول الله وصحبه - من هذه الأساليب المختلفة؛ وبذلك نستطيع أن نحدد موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه التحديات.

مرحلة عدم الاكتراث بالدعوة

     بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة منذ أن نزل عليه {َيا َأيها المدّثر قم فَأنذر} وكانت دعوته في بادئ الأمر سرية، ولا ُيفهم من ذلك أن الـمـشـركيـن فـي تلك الفترة لا يعلمون عن محمد ودعوته شيئًا؛ لكن حيث جاء الرسول بما يخالف ما عليه القوم مخالفة كلية؛ وحيث علم أنه ليس من السهولة أن يلتف الناس حوله إذا جهر بالـدعـــوة بيـنهم مجتمعين، فقد كان يتخير من يتوسم فيه القبول فيسر له بأمر الدعوة، وهكذا خفي عـلـى الـمـشـركين تفاصيل ما عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه، ولكنهم لم يخف عليهم أن للرسول دعوة؛ فـهذا أبوذر وعمرو بن عنبسة وغيرهما يأتون النبي؛ لأنهم قد سمعوا به، وانتشر بينهم أنه يدعو إلى أمر جديد، إلا أن الرسول -وهو في بداية أمره- لم يواجه قومه بتسفيه ما هم عليه، فلم ينشأ عندهم الشعور القوي بالخطر من دعوته، فكان من أثر ذلك أنهم لم يكترثوا بأمره.

     جاء في سيرة ابن هشام: «فـلـما نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله لم يبعد عنه قومه ولم يردوا عليه، حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته، (تهذيب سيرة ابن هشام / 55).وهكذا الأمر دائمًا، عندما لا يشعر أهل الباطل بأن في دعوة الحق خطرًا عليهم، فإنهم لا يبدون اكتراثا بأمرهم، وإن كانوا لا يخفون بغضهم وكراهيتهم واستهزاءهم بالحق وأهله.

محاولات إسكات النبي صلى الله عليه وسلم

     المحاولات غير المباشرة لإسكات الرسول صلى الله عليه وسلم : ولما أعلن الرسول كفره بآلهتهم، وتسفيه معتقداتهم، حاول المشركون أن ينهوا الأمر بمحاولة إسكاته عن القيام بدعوته، وذلك عن طريق عمه أبي طالب، فمن ذلك طلبهم منه في المرة الأولى أن يكف ابن أخيه عنهم أو يتركهم ليروا أمرهم فيه؛ فردهم أبو طالب ردًا جميلا. (التهذيب / 55)؛ ولما لم تثن تلك المحاولة الرسول عن عزمه حاولوا مرة أخرى بلهجة أشد، وكان جواب الرسول واضحًا صريحًا وقاطعًا في أنه لا أمل في ثنيه عن دعوته: «والله ما أنا بأقدر أن أدع ما بعثت به من أن يشعل أحدكم من هذه الشمس شعلة من نار» (انظرالتعليق على فقه السيرة/110).

صياغة الاتهامات

     صياغة الاتهامات لتضليل العامة؛ ولما أيقنت قريش أنها لاتستطيع ثني الرسول عن الصدع بدعوته،حولت ُجَّل جهودها إلى إنشاء مناعة عند عامة العرب ضد الإيمان به، أو حتى الاستماع إليه، فاجتمعت قريش قبل موسم الحج بزعامة الوليد بن المغيرة لصياغة الاتهامات المناسبة لصد الوفود عن الاستماع إلى الرسول، فقال لهم: يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأيًا واحدًا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضًا، ويرد قولكم بعضه بعضًا» (التهذيب / 57)، فتقلبت أقوالهم بين ساحر وكاهن وشاعر، ثم استقر رأيهم على اتهامه بالسحر، كما تظهر القصة، وإن كانوا في الحقيقة لم يستقروا على اتهام واحد «إ َّنُكم َلِفي َقوٍل  ُّمخَتِلف» وكان من مشيئة الله أن جعل من تلك الاتهامات والتحذيرات دعاية للدعوة «وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها» (التهذيب / 58).

مرحلة التعذيب لفتنة المؤمنين

     ولما لم تفلح تلك المحاولات في صد الناس عن الإيمان بالدين الجديد، تواصى المشركون فيما بينهم بالتفنن في تعذيب المستضعفين لرد من آمن بمحمد عن دينه، وقد لخص كبيرهم أبو جهل مخططهم في ذلك: «وكان أبو جهل الفاسق.. إذا سمع بالرجل قد أسلم له شرف ومنعة أَنَّبه وأخزاه وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك لنسفهن حلمك، ولنفِّيَلَّن رأيك، ولنضعن شرفك، وإن كان تاجرًا قال: والله لنكسدن تجارتك ولنهلكن مالك، وإن كان ضعيفًا أغرى به» (التهذيب / 71،72).

مرحلة التهذيب

     وبدأت مرحلة التهذيب الرهيب كفعل أبى جهل بآل ياسر، وأمية بن خلف ببلال، ويكفي في تصوير شدة هذا التعذيب ما يرويه سعيد بن جبير قال: قلت لعبد الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم والله، إن كانوا ليضربون أحدهم ويجوعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له: اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول نعم، افتداء منهم مما يبلغون من جهـده» (التهذيب / 72).

     ولقد أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم - في تلك المرحلة شيء من الأذى، كالذي فعله به عقبة بن أبى معيط حين وضع سلا جزور على رأسه وهو ساجد، وعندما اجتمع عليه المشركون حول الكعبة ففرقهم أبو بكر عنه، والحقيقة أن التعذيب لم ينته عند مرحلة معينة، بل استمر طويًلا، إلا أن الهدف منه في المرحلة الأولى والدعوة في طفولتها كان المحاولة في رد الأتباع القلائل عن دينه، وتخويف غيرهم من الدخول في الدين، لكن بعد أن قويت شوكة الدعوة كان التعذيب لمجرد الانتقام، ولتنفيس الغيظ والحنق الذي في نفوس المشركين، أو للأخذ بشيء من ثاراتهم من المسلمين، ومن ذلك ما فعله المشركون بخبيب حين صلبوه.

أثر هذه المرحلة

ولابد لنا هنا من وقفة عند أثر هذه المرحلة على أتباع الدعوة، وعلى سير الدعوة نفسها: -

أخرجت تلك الابتلاءات نماذج عظيمة في الثبات على دين الله، والتضحية في سبيل العقيدة.

- وكان فيها تربية صلبة للأصحاب أعدتهم لخوض المرحلة القادمة- مرحلة المواجهة المباشرة- والجهاد الذي ارتفعت به درجاتهم عند الله، وزادت من الترابط بين أتباع الدين الجديد، وأدت إلى شيء من تعاطف العامة من المشركين مع هؤلاء المستضعفين، وهذه وغيرها مكاسب عظيمة للدعوة، كان الابتلاء سببًا مباشرًا لها.

مطاردة الفارين بدينهم

«فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، بمكانه من الله ومن عمه أبى طالب، وأنه لايقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه؛ فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة، وفرارًا إلى الله بدينهم. (التهذيب /72)، ولكن طغاة قريش لم يطب لهم العيش، وهم يرون أتباع الدعوة وقد أصابوا دارًا وقرارًا عند ملك الحبشة، فكان ما كان من مؤامرات حتى يخرجوهم من دارهم التي اطمأنوا بها وأمنوا فيها، وكان من رحمة الله بعباده المؤمنين، ومن حمايته لدعوته وحفظه لها أن رد وفد قريش خائبا، وجعل للمسلمين من عدل النجاشي ملجأ، وإن لم يكن على دين الإسلام في بادئ الأمر، وهذه الصورة بكل جوانبها لا تزال تكرر نفسها.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك