رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. بيان صالح حسن 5 يناير، 2015 0 تعليق

تبديد الأوهام: الأهداف الحقيقية للتداعي على إفريقيا (1)

لقد انطلت الخدعة على كثير من الناس، بل على بعض من حملوا مشعل الثقافة ولواء السياسة - يا للأسف الشديد -، فتوهّموا أن المستعمر هو المنقذ من التخلّف، والمخلّص من الظلام، والقائد إلى دائرة الرقي والحضارة، فدعوا إلى التعايش معه وتقبّله، والسير في ركابه, وتقليده شبراً بشبر، حتى يتم الوصول إلى ما وصل إليه من المدنية والتقدّم، ولم يشعروا بالأهداف الحقيقية لتداعي الغرب على إفريقيا وغيرها من بلاد العالم الإسلامي.

لا جدال في أن الأمم التي تتداعى على إفريقيا، بما تحويه من ثروة طبيعية وبشرية، قد وضعت أهدافاً محددة، ورسمت خططها لرحلتها المقصودة إلى القارة العذراء، ولاسيما أن أغلب الدول التي وضعت نصب عينيها الحصول على نصيب من الكعكة الإفريقية دول مؤسسات, تتحرك وفق دراسات وخطط شارك فيها الخبراء والمتخصصون في مختلف العلوم والمعارف، وما مؤتمر برلين المنعقد في 1884م الذي تم فيه تقسيم إفريقيا إلى مناطق نفوذ لمصالح الدول الغربية إلا نموذجا لهذا التخطيط والمكر.

وهذا الموضوع له أهمية بالغة؛ لأنه يساعد المستهدفين على الخروج من حالة الاستغفال التي تُمارس ضدهم، والوعي بالأهداف الحقيقية للغزاة؛ حيث تتحدد الرؤية بعد ذلك للتعامل مع هذا الحدث وفق آليات ومبادرات تراعي تحقيق المصالح ودرء المفاسد.

     وليس من الفهم السديد أن تنطلق في تحليل الأهداف وأنت أسير نظرية المؤامرة، ولا أن تنفي المؤامرة تماماً، وتتعامل مع التصريحات المعلنة بعقل ساذج لا يقلّب الأمور ولا يتفحّصها، فبكل تـأكيد، ليس كل هدف معلن للتعامل مع الشأن الإفريقي هو الهدف الحقيقي الذي يتم السعي إلى تحقيقه، كما أن القول بأن كل هدف معلن ليس هدفاً حقيقياً قول يجانبه الصواب، فقد تكون الأهداف المعلنة هدفاً مطلوباً، وتتضمن تحت هذا الهدف أهدافاً أخرى مبطنة يستصحبها الهدف المعلن, وإن كان الهدف المعلن بحد ذاته يمثّل هدفاً حقيقياً أيضاً.

     ولعل الأهداف الأكثر قابلية للجدل هي تلك الأهداف التي غُلّفت في قالب ديني أو إنساني: كقضايا التنصير، ونشر الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وحملات الإغاثة، والمساعدات الإنسانية والتنموية؛ لذلك فإننا سنحاول في هذا المقال التركيز حول هذه القضايا خصوصا.

1 - وَهْم الرسالة الحضارية للاستعمار:

يُعرّف التنصير من خلال واقع التنصير أنه: «حركة دينية سياسية استعمارية، بدأت بالظهور إثر فشل الحروب الصليبية».

     هل كان التنصير ممهِداً للاحتلال أو كان الاحتلال مساعداً للتنصير؟ وهل كان التنصير مقصوداً لذاته أو اتخذ سلماً للوصول إلى مآرب أخرى؟ أسئلة مكرورة ووجيهة في الوقت نفسه تفرض نفسها دائما.

     والإجابة عن مثل هذه الأسئلة المهمة تقودنا إلى حقيقة أهداف التداعي الدولي على إفريقيا، ولعل مفهومنا وتعريفنا للتنصير يوضح العلاقة بين التنصير والاحتلال، وأزعم أن هذا هو السبب في اختلاف الناس في ربط التنصير بالاحتلال من عدمه.

      فبعض الناس يُعرّف التنصير من خلال واقع التنصير فيرى أنه: «حركة دينية سياسية استعمارية، بدأت بالظهور إثر فشل الحروب الصليبية؛ بغية نشر النصرانية بين الأمم المختلفة في دول العالم الثالث بعامة، وبين المسلمين بخاصة؛ بهدف إحكام السيطرة على هذه الشعوب».

     وهناك من عرّف التنصير في إفريقيا بتعريف خاص غير بعيد عن التعريف السابق، ومصور للحالة التنصيرية الواقعية في إفريقيا، فقال إنه: «حركة دينية سياسية تجارية ممهدة للاستهدام الغربي –الاستعمار -، ومتفاعلة معه، مباركة له، وهادفة إلى ذوبان وصهر الهوية والشخصية الإفريقية في حالتها الإسلامية، أو الوثنية، في الشخصية الأوروبية، دون المساواة بينهما في الخلقة والحقوق، وهادفة أيضاً إلى احتكار التجارة، والتعليم، والقيادة السياسية خصوصاً... ومنع الإسلام من التقدم في المناطق الوثنية».

     ومثل هذه التعريفات - تأكيداً - لا ترتضيها المؤسسة الكنسية ولا رجال الدين النصراني، فهي تعريفات مزعجة لهم؛ لأنها تدينهم، وتشوّه سمعتهم، وتحمّلهم تبعات العمل الفاشي الذي مارسه الاحتلال بجميع أنواعه من التقتيل والتدمير ونهب الثروات... إلخ، فرجال الدين لا يرون في التنصير إلا تبشيراً بالمسيح، ودعوة الناس إليه بالإنجيل طبقاً لما ورد في إنجيلهم: (اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها، من آمن واعتمد خلص، ومن لم يؤمن يُدن)، وهذه دعوى تفتقر إلى دلائل واقعية مقنعة.

     ومن المعلوم؛ أن التعريف عندما يُصاغ لا ينبغي أن يُصاغ من أجل تحسين الصورة وتزيينها، كما لا يجوز أن يُقصد منه التشويه، والتجنّي على المخالف، ولاسيما أننا أمة ملزمة بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة: 8)، بل التعريف الصحيح ينطلق من حقائق ووقائع.

     فإذا كان التعريف وصفاً لحقيقة الشيء وبياناً لماهيته؛ فإن الوقائع والأحداث تؤكد تلازم الاحتلال والتنصير، وتجعل منهما وجهين لعملة واحدة، وصنواناً لا يفترقان، سواء كان الاحتلال غزواً عسكرياً، أو نفوذاً سياسياً، أو اتخذ صورة من صوره الأخرى المختلفة، وهذا ما يشهد به التاريخ وواقع الحال دون مواربة.

     ولو عدنا بالذاكرة إلى الحملات التي استهدفت إفريقيا؛ نجد أن البرتغال حازت قصب السبق في التوسع نحو إفريقيا ابتداءً من عام 1444م تنفيذاً لرغبة هنري الملاح؛ حيث وصلت إلى رأس بوجادور وحتى السنغال، ثم تواصلت الحملات على سواحل إفريقيا الغربية حتى أحكمت السيطرة عليها، ثم اتجهت جنوباً، واكتشفت رأس الرجاء الصالح، وقام فاسكودي غاما بالمرور على موزمبيق في عام 1498م، لتصبح سواحل إفريقيا محميات عسكرية يقودها جيش من المنصّرين الذين تمكّنوا من تنصير الكثير من الأفارقة، وعلى رأسهم ملك الكونغو.

     وقد طوّق البرتغاليون إفريقيا بأسطولهم البحري, حتى وصلوا إلى السواحل الشمالية الشرقية من إفريقيا؛ حيث توجهت حملة برتغالية في عام 923هـ / 1517م إلى سواحل البحر الأحمر, تتكون من أربع وعشرين سفينة بقيادة دي سكويرا الذي أخفق في احتلال جدة، فاتجه إلى السواحل الإفريقية؛ حيث كان البرتغاليون يطمعون في مد الصلة بينهم وبين نصارى الحبشة، فوصلت الحملة إلى زيلع فعاثت فيها فساداً، ثم اتجهت إلى مدينة مصوع الإريترية الساحلية، ودخلتها عنوة، فكان أول عمل أمر به قائد الحملة تحويل مسجد مصوع إلى كنيسة، وذلك بعد أن هرب منها سكانها الذين وصل إلى مسامعهم ما فعله البرتغاليون بشيوخ زيلع ونسائها.

     وهكذا استمر الترابط عملياً وواقعياً بين الاحتلال والتنصير في القارة الإفريقية إلى القرن العشرين الميلادي الذي سبق استقلال دول القارة، فعندما استولى الإيطاليون - على سبيل المثال - على ساحل البحر الأحمر وجدوا البعثات الفرنسية والسويدية التنصيرية قد سبقتهم إلى ذلك، فضلاً عن منصّر إيطالي يُدعى سابيتو، كان قد اشترى أرضاً في منطقة عصب الساحلية باسم شركة روباتينو للملاحة, فكانت هذه النقطة قاعدة لانطلاق الاحتلال الإيطالي على إريتريا.

     ومن سنن المحتلين أنهم كانوا يختارون بعناية الحكّام الذين يرسلونهم إلى إفريقيا، فكان جلّهم ممن يتعصّبون لنشر النصرانية، كالحاكم الإنجليزي غوردون في السودان، ثم أتبعوهم بعد الاستقلال بحكّام وطنيين تخرجوا في إرسالياتهم التنصيرية، كالرئيس نيريري، أو في جامعاتهم ومراكزهم العلمية.

     وقد شهد الغربيون أنفسهم بهذا الترابط الشديد؛ حيث يقول الدكتور ولتر رودني: «وقد كانت البعثات التبشيرية المسيحية جزءاً من قوى الاستعمار إلى حدٍّ كبير، مثلها في ذلك مثل المكتشفين، والتجار، والجنود».

     ويرى كتّاب آخرون أن مشاركة البعثات التنصيرية لم تكن مقصودة لذاتها، إنما كانت ذريعة لتحقيق مصالح أخرى، كالحصول على المواد الخام، وتوفير السوق المستهلكة للمنتجات، يقول ريتشارد داودن في كتابه (إفريقيا.. الأسرار والمعجزات): «وحتى يومنا هذا.. ظلت أوروبا تفرض مقاليد الهيمنة على إفريقيا, لقد غزاها الأوروبيون باسم المسيحية تارة, وباسم الحضارة تارة, وباسم التجارة تارة أخرى..

     ونحن نتصور أن رسالة الدين وحكاية نشر الحضارة والمدنية إنما كانت ذرائع ليس إلا، ساقتها قوى الاستعمار بعد وصول النظام الرأسمالي في الغرب إلى مرحلة حاسمة؛ كان لابد وأن تشهد التطلع نحو أمرين أساسيين بالنسبة لتطور هذا النظام الرأسمالي:

الأمر الأول: هو التماس الخامات؛ أي المواد الأولية اللازمة لدوران عجلة الصناعة التي أصبحت محور الحياة في أوروبا الغربية على وجه الخصوص.

أما الأمر الثاني: فكان يتمثل في الأسواق المفتوحة التي تستقبل وتستهلك هذه المنتجات الغربية, ويحصد من ثم منتجوها ومحتكروها ثروات طائلة من فائض القيمة الناجم عن هذه المبادلات».

     ولعل ما دعا هذا المؤلف إلى ترجيح هذا الرأي؛ أن رجال السياسة في الغرب كانوا يستغلون الدين صراحة للتمكن من ثروات إفريقيا، وتجيير كل نجاح يحققه المنصّرون لمصالح البلد الأم سياسياً، واقتصادياً، وعسكرياً... إلخ.

     فقد جاء في وثيقة سرية وزّعها وزير المستعمرات البلجيكية على البعثات التنصيرية في الكونغو: إن المهمة التي كلفتم بأدائها حساسة جداً، تتطلب كثيراً من الحذر والحيطة، أيها الآباء! إنكم جئتم للتنصير، ولكن هذا يجب أن يكون ممثلاً لروح أهدافنا الكبرى، وقبل كل شيء منفعة بلدنا الأم، وليس من أهدافنا الأساسية جعل الأسود أن يعرف الله... إلخ.

     أي ليس الهدف الإحسان إلى الإفريقي بتعريفه حقوق خالقه عقيدة وعبادة، وتعليمه الدين الصحيح الذي يخرجه من الظلمات إلى النور، ويوصله إلى مرضاة الله ودخول الجنة، بل هناك أهداف عظيمة يتصاغر أمامها العمل التنصيري الذي يحققه المنصّرون.

     وبناء على جميع المعطيات المذكورة؛ فليس من العدل والإنصاف والعقلانية أن ننفي التنصير بوصفه هدفاً من الأهداف الحقيقية للتداعي على إفريقيا؛ لأنه لا يمكن أن تبذل مثل هذه الجهود، وترسل الإرساليات بهذه الأعداد الضخمة، وتُقام الكنائس، وتُرصد الميزانيات المهولة، وتُوضع الخطط، وتُعقد المؤتمرات الكبيرة، كمؤتمر كلورادو - نموذجاً - في عام 1978م، وتُناقش فيها مسائل دقيقة لتنصير القارة الإفريقية بكاملها، وزيارات بابا الفاتيكان لعدد من الدول الإفريقية العربية منها وغير العربية خلال السنوات الماضية، وكان آخرها زيارة (بندكت) لكل من الكاميرون وأنغولا ورواندا في مارس 2009م؛ لا يمكن أن تكون كل هذه الأمور مجرد وسائل، بل كل ذلك يؤكد أن هناك توجهاً حقيقياً لتنصير القارة.

     ويكفينا حجة لوجود هذا المقصد حقيقة قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ۖ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 109)، {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ۖ فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ۖ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (النساء: 89), فهذا الشعور عام لدى الذين كفروا، وإن شذ منهم من شذ، فالحكم للعام.

     وإذا نظرنا إلى جانب الطرف المستهدف، ولاسيما المسلمون منهم, فإن خسارتهم لعقيدتهم لا تعدلها خسارة أخرى، وهذا أسوأ ما عاناه الإفريقي من التداعي الغربي عليه، وإذا تمّت السيطرة على العقيدة والفكر فما سواها أسهل، والتعامل مع المتماثل في المعتقد أسهل من التعامل مع المخالف.

     وما زال التداعي قائماً ولمّا تتغير النظرة إلى القارة البكر إلى يومنا هذا، فقد استمر الغرب في فرض سيطرته حتى بعد استقلال دول إفريقيا، ولكن الذي تغير هو أسلوب الاستغلال, فاتخذ الأسلوب الناعم في غالبه مع عدم استبعاد استخدام القوة، أو التهديد باستخدامها وقت الحاجة إليها، كما حدث أخيراً من تدخّل فرنسا في ساحل العاج؛ حيث اعتقلت الرئيس غباغبو الذي انتهت ولايته ورفض تسليم السلطة للرئيس المنتخب حسن وتارا.

     ونجد التدخّل الغربي في السودان أوضح مثال؛ حيث تدخّل الغرب بقوة في مشكلة الجنوب ونجح في فصلها عن دولة السودان، وتدخّل في قضية دارفور وسعى إلى تدويلها، وذلك ابتغاء تحقيق أهداف عدة؛ منها:

1 - إيقاف المد الإسلامي نحو جنوب القارة عامة؛ بجعل جنوب السودان حاجزاً منيعاً.

2 - محاولة السيطرة على النفط السوداني ومنابع النيل للضغط على السودان ومصر.

3 - كبح جماح روح استقلالية القرار في إفريقيا عامة.

     فهذه التدخلات إذن, وإن كانت تتم باسم دعم الديمقراطية، وحماية المدنيين، ونشر العدالة، وحقوق الإنسان، والحرية السياسية, فإنها في النهاية تأتي لحماية مصالحها واستهداف من تصفهم بالأعداء. 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك