ةسطية السلفية في الواقع المعاصر
تميز أهل السنة والجماعة بالوسطية بين الفرق الضالة، وأنهم على الصراط المستقيم بين أهل الغلو وأهل التفريط، ونوضح هنا وسطيتهم في الواقع المعاصر وفي كثير مِن القضايا التي شغلت الأذهان واختلف الناس فيها في زماننا اختلافًا كثيرًا.
وأهم هذه القضايا: الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، والحاكمية، والعزلة والخلطة، وهاك بيان وسطية أهل الحق في كل هذا حتى تتضح لك المعالم، وتتجلى لك الحقائق، ويزول اللبس، وتعلم الحق؛ فتلزم سبيل المؤمنين، وتكون من الطائفة المنصورة بإذن الله.
الدعوة إلى الله
ففي الدعوة إلى الله كان أهل الحق وسطًا بين فئتين؛ فئة فرطت فيما أمرها الله به مِن الدعوة إلى دينه وبيان الحق لخلقه؛ فشغلوا بدنياهم عن دينهم وهم غالب الخلق، وصدق فيهم قول القائل:
نرقع دُنْيَانَا بتَمْزِيْقِ دِيْنَنا
فَلا ديِنُنَا يَبْقَى ولا ما نُرَقِّعُ
وفئة أخرى راحت تدعو إلى الله بلا علم ولا بصيرة؛ فبدلًا مِن أن يدعوا إلى ما أنزل الله، دعوا إلى أصول أصلوها ومناهج وضعوها بعيدة عن الوحي المنزل، أو أخروا ما حقه التقديم في الدعوة كدعوة التوحيد، فلبسوا الحق على الخلق، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعًا.
أما أهل الحق السائرون على درب السلف فكانوا وسطًا بين الطائفتين، فدعوا إلى الله على بصيرة وهدى امتثالًا لقول ربهم: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِي} (يوسف:108).
فقاموا بواجبهم متسلحين بالعلم الشرعي الذي تؤدى به الواجبات، وتدرأ به الشبهات، ويعصم به العبد من ارتكاب المحرمات، فنهجوا منهج الأنبياء بالدعوة الحكيمة إلى ما أنزل الله جملة وتفصيلًا، بيد أنهم بدؤوا دعوتهم إلى التوحيد الخالص ونبذ الشرك.
الأمر بالمعروف
وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان أهل الحق وسطًا بين طائفتين؛ إحداهما تركت ما يجب عليها من الأمر والنهي، يمرون على المنكرات مِن الشرك والبدع والمعاصي لا يحركون ساكنًا، وكأن الأمر لا يعنيهم، يقول أمثلهم طريقة: علينا أنفسنا، أو: دع الملك للمالك.. ولله در الصديق -رضي الله عنه - حيث قال: «أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة:105)، إلى آخر الآية، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: وَإِنَّ النَّاسَ إِذا رَأَوُا المُنكَرَ فَلَم يُغَيِّرُوهُ، أَوشَكُوا أَن يَعِمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقابٍ».
أما الطائفة الأخرى المقابلة لهذه هي التي راحت تأمر وتنهى باللسان واليد، ولكن مِن غير فقه أو حلم أو نظر فيما يصلح من ذلك وما لا يصلح، وما يقدر عليه وما لا يقدر؛ فترتب على أمرها ونهيها وقوع المفاسد وضياع المصالح وزيادة المنكرات، وبين الفئتين وقف أهل العلم والاتباع على الجادة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ولكن بعلم وحلم.
فأمرهم بالمعروف بمعروف، ونهيهم عن المنكر مِن غير منكر، يغيرون المنكر إذا كان سيحل محله معروف أو منكر أقل، أما إذا كان سيترتب على نهيهم منكر أعظم امتنعوا وكفوا؛ مراعاةً لتحقيق المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها.
الجهاد
وفي الجهاد كانوا وسطًا بين طائفتين؛ إحداهما فرطت، فبعضهم قصر الجهاد على جهاد الدفع دون الطلب، وبعضهم أمعن في التفريط حتى كاد يسقط جهاد الدفع؛ حيث أنكر على المسلمين مقاومة عدوهم الذي احتل ديارهم، ونسي أن جهاد الدفع من فروض الأعيان.
وأما الطائفة الأخرى فقد غلت واندفعت في تهور غير مراعية للضوابط الشرعية؛ فسفكت الدماء المعصومة، وأوجبت القتال على المستضعفين، فكان قتالهم قتال فتنة، ارتكبت فيه المفاسد، وضاعت المصالح، وكل ذلك باسم الجهاد.
وبين الطائفتين وقف أهل الحق والاتباع على الصراط المستقيم الذي هو شرع الله المنزل، فقالوا: إن الجهاد ذروة سنام الإسلام، به تحمى بيضة الدين، وتعلو راية التوحيد، ويكون بالجسم واللسان وبالسيف والسنان، ولكن بالضوابط الشرعية والقواعد المرعية ومراعاة الشروط التي دلت عليها أدلة الكتاب والسنة، والتفريق بين القدرة والعجز وغير ذلك، فأصابوا الحق ورحموا الخلق.
لاتوجد تعليقات