رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.عادل المطيرات 29 يوليو، 2019 0 تعليق

بين العاطفة والاتباع

ثبت في المسند والصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ عبدًا قتلَ تسعةً وتِسعينَ نفسًا ثمَّ عرضَت لَهُ التَّوبةُ؛ فسألَ عَن أعلمِ أَهْلِ الأرضِ؛ فدُلَّ على رجلٍ فأتاهُ؛ فقالَ: إنِّي قتَلتُ تسعةً وتسعينَ نفسًا، فَهَل لي من توبةٍ؟ قالَ: بعدَ تِسعةٍ وتسعينَ نفسًا قالَ: فانتَضَى سيفَهُ فقتلَهُ؛ فأَكْملَ بِهِ المائةَ، ثمَّ عرضَت لَهُ التَّوبةُ؛ فسألَ عن أعلَمِ أَهْلِ الأرضِ؛ فدُلَّ على رجلٍ فأتاهُ فقالَ: إنِّي قتَلتُ مائةَ نفسٍ، فَهَل لي من تَوبةٍ؟ فقالَ: ويحَكَ، ومَن يحولُ بينَكَ وبينَ التَّوبةِ؟ اخرُج منَ القَريةِ الخبيثَةِ الَّتي أنتَ فيها إلى القريةِ الصَّالحةِ قَريةِ كذا وَكَذا، فاعبُدْ ربَّكَ فيها، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ؛ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ». الحديث.

     هذا الحديث العظيم فيه فوائد كثيرة، منها سعة مغفرة الغفور الرحيم -سبحانه-، وأن رحمته سبقت غضبه، وأنه -سبحانه- يغفر للعاصي مهما فعل من الذنوب الكبيرة، إذا رجع وتاب وأناب إلى ربه -سبحانه-، وإن من أهم فوائد هذا الحديث تقديم العلم على العاطفة؛ ففي الحديث درس عظيم للشباب خصوصا، وهو تغليب الشرع على الحماس والعاطفة؛ ففي كثير من الأحيان قد لا تتفق العاطفة مع الدين، وقد تؤدي العاطفة إلى الضلال والإضلال.

خطورة الفتوى

     وانظر كيف أودت هذه الفتوى بحياة هذا العابد الجاهل، الذي قدم العاطفة على العلم، فأفتى هذا العاصي بعدم قبول توبته؛ فتسبب في قتله، ثم أخذ بفتوى العالم الذي أفتى بالعلم الفتوى الصحيحة التي أعطت الأمل للعاصي في توبة الغفور الرحيم -سبحانه-؛ ولذلك ثبت في سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ».

سفك دماء الأبرياء

     إن العاطفة البعيدة عن العلم الشرعي تسبب سفك دماء الأبرياء من المسلمين وغير المسلمين؛ ولذلك عظم الله -سبحانه- شأن الدماء، وبين حرمتها فقال -سبحانه-: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}(النساء:93)، وفي الصحيحين عن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع: «إنَّ دِماءَكُم، وأمْوالَكم وأعْراضَكُم حرامٌ عَلَيْكُم كَحُرْمة يومِكُم هَذَا، في شهرِكُمْ هَذَا، في بلَدِكُم هَذَا»، وفي صحيح البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا».

دم الكافر المعاهد

بل بين -عليه الصلاة والسلام- أن دم الكافر المعاهد والمستأمن حرام؛ ففي صحيح البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَتَلَ مُعَاهِدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّة».

العلماء الربانيون

     أما العلماء الربانيون فإنهم حريصون كل الحرص على حفظ الدماء؛ ولذا تراهم وقت الفتن حكماء عقلاء، لا يغلبون العاطفة والحماسة على العلم الشرعي، ولا يسعون إلى إرضاء الجماهير على حساب دينهم، بل كلمتهم راسخة؛ لأنها صادرة عن دين وفهم لنصوص الشريعة، ومعرفة بسنن الله -تعالى- الكونية التي لا تتغير ولا تتبدل في كل عصر ومصر.

مدخل شيطاني

     إن تغليب العاطفة والرأي على العلم الشرعي هو باب دخل منه الشيطان على كثير من الناس ، أوقعهم في الضلال والانحراف الفكري؛ فطعنوا بذلك في كبار العلماء الربانيين، واتهموهم بأنهم علماء الحيض والنفاس، وعلماء السلاطين؛ لأنهم لم يفتوا أو يتكلموا بما يرى هؤلاء من آراء وأفكار عاطفية، بعيدة كل البعد عن العلم الشرعي الأصيل ، القائم على فهم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة من الصحابة والتابعين والأئمة الربانيين.

العلمُ قال اللهُ قال رســـولُه قال          الصحابةُ هم أولـــو العرفان

ما العلمُ نصبَك للخلاف سفاهةً            بين الرسول وبين رأي فلان

الدليل الشرعي

     إن علماء الأمة الربانيين إنما يتبعون في فتاواهم الدليل الشرعي من كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفق فهم السلف الصالح -رحمهم الله-، واضعين نصب أعينهم المصالح والمفاسد المترتبة على كل كلمة يصدرونها، وانظر كيف يتهم الصحابة -رضي الله عنهم- أنفسهم وآراءهم إذا غلبت عليها العاطفة، وكيف يرجعون إلى الحق والسنة، ويتركون عاطفتهم وأهواءهم، ومن أوضح الأدلة في ذلك ما حصل في صلح الحديبية.

     في صحيح البخاري قال سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ، فَإِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ، وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا؛ فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَهُمْ عَلَى البَاطِلِ؟ فَقَالَ: «بَلَى». فَقَالَ: أَلَيْسَ قَتْلاَنَا فِي الجَنَّةِ وَقَتْلاَهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: «بَلَى»، قَالَ: فَعَلاَمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا، أَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ: «يَا ابْنَ الخَطَّابِ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ أَبَدًا»؛ فَانْطَلَقَ عُمَرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ؛ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ فَقَالَ: إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا؛ فَنَزَلَتْ سُورَةُ الفَتْحِ فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عُمَرَ إِلَى آخِرِهَا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَو َفَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، فطابت نفسه ورجع.

عواقب الأمور

     إن العاقلَ هو الذي يدرك بعقله وحكمتِه الأمور ويدرك عواقبَها، والجاهلُ هو الذي يفكر بعاطفتِه وجهلِه، ولا يُدرك عواقبَ الأمورِ وبواطنَها، إن  المسلمَ  الذي تمر عليه مثلُ هذه الأحوال في الأمة يتحتم عليه أن ينظرَ إليها بعين العقل والبصيرة والحكمة، وأن يُغلّبَ الإنسانُ مصلحة َمجتمعه وبلده على مصلحة نفسه الخاصة؛ فالفتنَ إذا انتشرت وعمت أكلت الأخضرَ واليابس، ولم تفرق بين صغير وكبير، ولا رجلٍ وامرأة، ولا رئيسٍ ومرؤوس .

الفكر المنحرف

     إن من أسباب الدمار في كثير من البلدان العربية ذلك الفكر المنحرف الذي يحمله بعض الجهلة من أصناف المتعلمين، الذين يُلَبسون على النساء والأطفال والشباب أمر دينهم ، ويدفعون بهم إلى ساحات المواجهة مع الأنظمة الظالمة، بحجة الجهاد ورفع الظلم وطلب الحرية؛ فيندفع هؤلاء المساكين بعاطفة جياشة وحماس الشباب غير واعين للعواقب، وما سيحصل بعد ذلك من الويلات والمصائب على الأمة .

حسرة وندامة

إن الكثير ممن يعيش في تلك البلدان المنكوبة ليبكي حسرة وندامة على ما آلت إليه بلده، ويتمنى لو أنه بقي الظلم في بلده دون ثورة على النظام، مع بقاء الأمن والأمان، وشيء معقول من المعيشة والسفر والذهاب والإياب.

دعوة تصحيحية

     إنها دعوة تصحيحية لبيان خطر هذا الفكر المنحرف على هذه الأمة، وهو تقديم العاطفة على العلم الشرعي، الذي أنتج لنا أفكارا مدمرة: تكفير الحكام والمجتمعات، والانقلابات والمظاهرات، والثورات وقتل الأبرياء المسالمين، وترويع الآمنين، وإشاعة الفوضى، وذهاب الأمن والاستقرار، كل ذلك تحت غطاء الإسلام والجهاد؛ فانخدع بذلك كثير من الناس ممن تغلب عليهم العواطف الدينية والحماسة غير المتزنة .

بيان محاسن الإسلام

إن الواجب علينا هو بيان محاسن الإسلام، وحقيقة هذا الدين العظيم دين العلم والحكمة، ودين السماحة واليسر، دين النصيحة بالحكمة والموعظة الحسنة، دين إعداد العدة الحسية والمعنوية قبل الاندفاع للهاوية؛ فنسأل الله أن ينصر دينه ويعلي كلمته.

انصر كتابَك والرسولَ ودينَك                                           العالـي الذي أنزلتَ بالبرهان

واخترتـَـه دينا لنفسك واصطفيتَ                                      مقيمَه من أمة الإنسـان

ورضيتـه دينا لمن ترضاه من                                          هذا الورى هو قيـم الأديان

وأقرَ عينَ رســولِك المبعوثِ بالدين                                  الحنيفِ بنصره المتدانـــي

وانصره بالنصر العزيز كمثل ما                                      قد كنتَ تنصــره بكل زمان

يا رب وانصر خيرَ حزبينا على                                       حزبِ الضلال وعسكرِ الشـيطان

يا رب واجعل شــرَ حزبينا فدى                                       لخيارهم ولعســكر القـرآن

يا رب واجعل حزبَك المنصورَ أهلَ                                 تراحم وتواصل وتــدان

يا رب وارحمهـم من البدع التي                                       قد أُحدثت في الدين كلَ زمـان

يا رب جنبهم طرائقَها التي                                              تُفضي بســالكها إلى النيـــران

يا رب واهدهــم بنور الوحي كي                                     يصلــوا إليك فيظفروا بجنـــان

نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين .

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك