بيان المقاصد لكتاب كشف الشبهات (٣) – مشركو العرب وجحد توحيد العبادة
هذه تأملات ومجالس علمية في مقاصد كتاب كشف الشبهات، الرسالة الماتعة النافعة لشيخ الإسلام المجدد لما اندرس من معالم الدين في القرن الثاني عشر، الشيخ أبي عبد الله محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي، -رحمه الله- وأجزل له المثوبة، وكشف الشبهات هذا المختصر النافع المفيد، فكانت هذه المذاكرة حول مقاصد هذه الرسالة مع بعض مضامينها وألفاظها.
- قال -رحمه الله-: «فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يشهدون لله هذه الشهادة؛ فاقرأ قوله -تعالى-: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (يونس: 31) وقوله: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (المؤمنون) وغير ذلك من الآيات.
- فإذا تحققت أنهم مقرون بهذا، ولم يدخلهم في التوحيد الذي جحدوه وهو توحيد العبادة الذي يسميه المشركون في زماننا: الاعتقاد، كما كانوا يدعون الله -سبحانه- ليلًا ونهارًا.
إخلاص العبادة لله وحده
- ثم منهم من يدعو الملائكة؛ لأجل صلاحهم وقربهم من الله ليشفعوا له، أو يدعو رجلًا صالحًا مثل اللات، أو نبيا مثل عيسى، وعرفت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلهم على هذا الشرك، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده كما قال -تعالى-: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن) وكما قال -تعالى-: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} (الرعد: 14)، وتحققت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إنما قاتلهم ليكون الدعاء كله لله، والنذر كله لله، والذبح كله لله، والاستغاثة كلها لله، وجميع أنواع العبادة كلها لله.
إقرارهم بتوحيد الربوبية
- وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة والأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم، عرفت حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون، وهذا التوحيد هو معنى قولنا: لا إله إلا الله.
النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى كلمة التوحيد
- فأتاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي: لا إله إلا الله، والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها، والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكلمة هو إفراد الله -تعالى- بالتعلق، والكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه؛ فإنه لما قال لهم: قولوا: لا إله إلا الله قالوا: {أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص: 5).
العجب ممن يدعي الإسلام!
- فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك، فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفرة! بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشيء من المعاني، والحاذق منهم يظن أن معناها لا يخلق ولا يرزق ولا يدبر الأمر إلا الله، فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله.
- إذا عرفت ما قلت لك معرفة قلب، وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء: 48)، وعرفت دين الله الذي أرسل به الرسل من أولهم إلى آخرهم، الذي لا يقبل الله من أحد دينًا سواه. وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بهذا، إذا عرفت كل ما ذكرته لك سابقًا أفادك ذلك فائدة:
الفائدة: الفرح بفضل الله ورحمته
- كما قال -تعالى-: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (يونس)، وأفادك أيضًا الخوف العظيم؛ فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بالجهل، وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله -تعالى- كما يظن المشركون، خصوصًا إن ألهمك الله ما قص عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم، أنهم أتوه قائلين: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ} (الأعراف: 138) فحينئذ يعظم حرصك وخوفك على ما يخلصك من هذا وأمثاله.
أعداء التوحيد
- واعلم أن الله -تعالى- بحكمته لم يبعث نبيا بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء كما قال -تعالى-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (الأنعام: 112) وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج كما قال -تعالى-: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} (غافر: 83).
الذي جحدوه هو إفراد الله بالعبادة
- قال المصنف - رحمه الله -: إذا تحققت أنهم كانوا مقرين بالربوبية، وإقرارهم بالربوبية لم يدخلهم في الإسلام، بل حاربهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذبهم وكفرهم، وتحققت أن الذي جحدوه وهو ما دعاهم إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو إفراد الله بالعبادة: وهو توحيد العبادة، إذا تحققت من هذا عرفت الشرك الذي يسميه الناس في زمانه - أي زمان الشيخ - بالاعتقاد في الأولياء والصالحين والأنبياء وغيرهم أنهم ينفعون عند الله، وأنهم وسائط بينننا وبين الله -جل وعلا- (فهذه المقدمة مهمة لكشف هذه الشبه)؛ لأن صاحب هذه الشبه يقول: إن التقرب بالذبح أو بالدعاء أو بالاستغاثة بالأولياء ليس شركًا ولا يخرج من الملة ولا يحل الدم والمال... إلخ.
الفرق بين هذا وبين شرك الأولين
- يقول الشيخ: ما الفرق بين هذا وبين شرك الأولين: شرك العرب؟ لا فرق بينه لمن عقل وفهم التوحيد الذي جاء به النبي والأنبياء قبله -عليهم الصلاة والسلام-، وعرف ما نهوا عنه من الشرك، ولم يعاند ولم يكابر. فهؤلاء محتاجون أصلًا لمعرفة التوحيد الذي جاء به الأنبياء وآخرهم محمد - صلى الله عليه وسلم - هذا أولًا.
- وثانيًا: هم محتاجون لمعرفة ما ماهية الشرك الذي حاربه الرسل وآخرهم محمد - صلى الله عليه وسلم - وحاربوا أهله وحذروا منه ومنهم!
- وكلا الأمرين: معرفة التوحيد ومعرفة الشرك مهمان ومتلازمان؛ فإنه لا يتحقق أحدهما إلا بتحقيق الآخر؛ حيث قد يعرف التوحيد ولكن لا يحققه لله -عز وجل- بجهل ذلك العبد بالشرك القادح في التوحيد.
- مثاله: من عرف وجوب العبادة لله وحده دونما شريك. ولم يتحقق أن التوسل بغير الله بسؤالهم الشفاعة والاستغاثة بهم شرك يقدح في أصل الدعاء، والسؤال الذي هو نوع من أنواع العبادة، فعدم تحقيقه علمًا وعملًا يوقعه في اللبس وعدم اعتباره شركًا قادحًا في التوحيد.
- والسبب عدم تحقيق علم التوحيد الذي بعث الله به رسله - عليهم الصلاة والسلام - ومعرفة الشرك الذي نهوا عنه، فهذا مقصد عظيم قرره الشيخ في هذه المقدمة.
- فأنت أيها المسلم، ويا طالب العلم إذا عرفت التوحيد المطلوب، وتحققته، وعرفت الشرك وفهمته، علمت ما يقع به الناس من التوحيد أو الشرك.
لاتوجد تعليقات