رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الحضرمي أحمد الطلبه 17 مارس، 2019 0 تعليق

بيانٌ ودفع شبهة – قاعدة: لا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنبٍ ما لم يستحلَّه


دين الله -تعالى- وسطٌ بين الغالي فيه والجافي عنه، وهذه الوسطيةُ هي أبرز ما يميِّز أهلَ السنة والجماعة عن أهل البدع والغواية؛ ففي باب الوعيد نجد أن أهل السنة والجماعة وسطٌ بين الخوارج القائلين بالتكفير بأي ذنب، وبين المرجئة القائلين بأنه لا يضر مع الإيمان ذنب.

وفي هذه المقالةِ شرحٌ وبيانٌ لقاعدة أهل السنة والجماعة قاطبة في باب الوعيد وهي: «لا نكفِّر أحدًا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله»، يعقُبه تفنيدٌ للإشكالات والشّبهات التي أُثيرت حولها.

تنصيص الأئمَّة على هذه القاعدة

نصَّ غير واحدٍ من أئمة أهل السنة والجماعة على هذه القاعدة، ومن أشهرهم الإمام أبو جعفر الطحاوي (ت 321هـ)؛ إذ يقول في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة: ولا نكفِّر أحدًا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحلَّه.

كما حكَى بعضُ الأئمة الاتفاقَ على تلك القاعدة، ما بين مطلقٍ للَفظها ومقيِّد بالاستحلال؛ فبعضُهم يقول: لا نكفِّر أحدًا من أهل القبلة بذَنب، وبعضهم يقيِّده بقوله: «إذا لم يستحلَّه»؛ ولما كان المقام لا يناسبه التطويل؛ فيكتفَى بذكر أشهرِ من نصَّ عليها:

الإمام أبو حنيفة ت 150هـ

يقول أبو مطيع الحكم بن عبد الله البلخي: سألت أبا حنيفة النعمان بن ثابت رضي الله عنه عن الفقه الأكبر؛ فقال: ألا تكفِّرَ أحدًا من أهل القبلة بذنب، وقال أيضًا: ولا نكفِّر مسلمًا بذنبٍ منَ الذنوب، وإن كانت كبيرة، إذا لم يستحلَّها.

الإمام محمد بن الحسن الشيباني ت 189هـ

قال: لا ينبغي لأحدٍ من أهل الإسلام أن يشهدَ على رجلٍ من أهل الإسلام بذنبٍ أذنَبه بكفر، وإن عظُم جرمه، وهو قول أبي حنيفة، والعامّة من فقهائنا.

الإمام أحمد بن حنبل ت 241هـ

يقول محمد بن حميد الأندرابي: قال أحمد بن حنبل في بيان صفة المؤمن من أهل السنة والجماعة: ولم يشكّ في إيمانه، ولم يكفِّر أحدًا من أهل التوحيد بذنبٍ.

الإمام ابن عبد البر المالكي ت 463هـ

يقول: وقد اتَّفق أهل السنة والجماعة -وهم أهل الفقه والأثر- على أن أحدًا لا يخرجه ذنبه -وإن عظم- من الإسلام، وخالفهم أهل البدع.

شرح القاعدة

     اتَّفق أهل السنة والجماعة على عدم تكفير مرتكب الكبيرة من المسلمين؛ فمنِ ارتكب كبيرةً من كبائر الذنوب -كالزنا والسرقة ونحوهما، دون الشرك-، ومات عليها من غير توبة؛ فهو مستحق للوعيد يوم القيامة، وأمره -مع هذا- في مشيئة الله -تعالى-، إن شاء عذَّبه بعدله، وإن شاء غفر له وعفَا عنه بفضله، كما قال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء: 48، 116).

من أهل القبلة

     وقولهم: «من أهل القبلة»، المراد بهم هنا: مسلم لم يقترف ذنبًا يخرجه من الإسلام، يقول الإمام أبو محمد البربهاري (ت 329هـ): ولا نخرج أحدًا من أهل القبلة من الإسلام، حتى يرُدَّ آيةً من كتاب الله، أو يردَّ شيئًا من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يذبَح لغير الله، أو يصلِّي لغير الله؛ فإذا فعل شيئًا من ذلك؛ فقد وجب عليك أن تخرجَه من الإسلام، وإذا لم يفعل شيئًا من ذلك؛ فهو مؤمن مسلم بالاسم لا بالحقيقة.

ما لم يستحلَّه

وأما قولهم: «ما لم يستحلَّه»:  فمعنى الاستحلال: اعتقاد الشيء المحرم حلالًا، يقول ابن القيم (ت 751هـ): إن المستحل للشّيء هو الذي يفعله معتقدًا حلَّه، ويقول الشاطبي (ت 790هـ): لفظ الاستحلال، إنما يستعمل في الأصل فيمن اعتقدَ الشيء حلالا.

     والمعنى: أن العبد إذا فعل الذنب -ما لم يتضمَّن ترك أصل الإيمان- مع اعتقاده أن الله -تعالى- حرَّمه عليه، واعتقاد انقياده لله -تعالى- فيما حرَّمه أو أوجبه عليه؛ فإن أهل السنة لا يحكمون على هذا العبد بالكفر، أما إذا اعتقد أن الله -تعالى- لم يحرم الذنب، أو أنه حرمه لكن امتنع من قبول هذا التحريم، ورفض أن يسلِّم بحكم الله -تعالى-؛ فإنَّ العبدَ في هذه الحالة إما أن يكون جاحدًا أو معاندًا؛ ولهذا قرر علماء أهل السنة والجماعة أن من عصى الله -تعالى- مستكبرًا كإبليس كفر باتفاق، ومن عصاه مشتهِّيًا لم يكفر.

مناط إعمال القاعدة

     لعل المتأمِّل في كلام الأئمَّة يرى أنهم أوردوا تلك القاعدة المنيفة أصالةً في معرض الرد على مذاهب أهل الزيغ والضلال من الخوارج القائلين بأن مرتكب الكبيرة كافرٌ، كما يخالفون المعتزلة القائلين بأن مرتكب الكبيرة يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر؛ فهو في منزلة بين المنزلتين، وأوجبوا له الخلود في النار يوم القيامة.

      يقول ابن أبي العزّ الحنفي (ت 792هـ): إن أهل السنة متَّفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفرًا ينقل عن الملة بالكلية، كما قالت الخوارج؛ إذ لو كفر كفرًا ينقل عن الملة لكان مرتدًّا، يُقتل على كل حال، ولا يقبَل عفو وليّ القِصاص، ولا تجري الحدودُ في الزنا والسرقة وشرب الخمر، وهذا القول معلومٌ بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام.

حقيقة الذنب

ولما كانت حقيقة الذنب: إما أن يكون فعلًا لمحرم، أو تركًا لواجب؛ فإنه يتبادر لنا سؤال وهو: ما المراد بالذنب في القاعدة؟ وهل تشمل القاعدة الذنوب جميعها، سواء كانت متضمنة لترك أصل الإيمان أم غير متضمنة لذلك؟

     للعلماء في الجواب عن هذين السؤالين تفصيل، يوضحه ما يلي: من المعلوم بأنَّ هناك بعضَ الذنوب تتضمَّن ترك أصل الإيمان؛ كسبِّ الله -تعالى-، أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم ، أو السجود لصنم؛ فهذه الذنوب والمعاصي -المتضمنة ترك أصل الإيمان- لا تندرج قطعًا تحت القاعدة؛ ولهذا يقول الإمام ابن القيم في معرض بيان مجالات إعمال القاعدة: والكفّ عن أهل القبلة؛ فلا تكفر أحدًا منهم بذنب، ولا تخرجه عن الإسلام بعمل، إلا أن يكون في ذلك حديث -كما جاء وما روي- فتصدّقه وتقبله، وتعلم أنه كما روي نحو كفر من يستحلّ نحو ترك الصلاة، وشرب الخمر، وما أشبه ذلك، أو يبتدع بدعة ينسب صاحبها إلى الكفر والخروج من الإسلام؛ فاتَّبِع ذلك ولا تجاوزه.

     إذًا مجالات إعمال القاعدة هو فعل المعاصي التي لا تتضمَّن ترك أصل الإيمان، ومن أبرز أمثلتها كبائر الذنوب؛ من القتل، والزنا، وشرب الخمر، وأكل الربا، والكذب، والسرقة، ونحو ذلك، وقد اشتبَه هذا الأمر على بعض العلماء؛ فظنوا أن القاعدةَ عامَّةٌ في الذنوب والمعاصي كلها، سواء تضمَّنت تركَ أصل الإيمان أم لا، وتفنيد تلك الشبهة والجواب عنها في الحلقات القادمة إن شاء الله.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك