رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 30 مايو، 2016 0 تعليق

بن حميـــد: التحـذير مـن الإرجاف والمُرجفين

ليعلَم كلُّ صاحبِ قلمٍ وموقعٍ وتدوينٍ أنه موقوفٌ بين يدَي الله، مسؤولٌ عن كل حرفٍ يُسطِّره، أو لفظٍ يُدوِّنُه، أو صُورةٍ ينشُرُها

من ثوابِتِ المملكة، عدمُ السماح بتعكير صفوِ المُقدَّسات، والعبَث بأمن الحُجَّاج، وهي مسؤولةٌ عن اتِّخاذ كل التدابير الحازِمة الصارِمة للحِفاظ على أمنِ البلاد والعباد

ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: (التحذير من الإرجاف والمُرجفين)، التي تحدَّث فيها عن الإرجاف والمُرجِفين، مُحذِّرًا من سُلوك سبيلِهم، ومُبيِّنًا أن الإرجافَ من أبرز علامات المُنافقين، كما حثَّ المُسلمين على ضرورة التثبُّت من الأخبار، وعدم نقلِ أي خبرٍ دون تثبُّت؛ بل والسعي في عدم نشر ما يُحبِطُ المُسلمين ويُثبِّطُ هِمَمهم، كما نبَّه على ما ينبغي على المُسلمين أن يفعَلوه تِجاه الإرجاف وأهله، وكان مما جاء في خطبته:

     حدثٌ صغيرٌ أو خبرٌ كاذِب، أو قولٌ مشكُوكٌ فيه، أو معلومةٌ مُجتزأَة فيها حقٌّ وفيها باطل، كلُّ ذلك يجعلُونَه نبأَ الساعة، أو الخبرَ الرئيس، فيملؤون به الإذاعات، وتزدحِمُ به الشاشات، وتُعقَدُ له الندوات، وتتزاحَمُ عليه الصور، وتُدبَّجُ فيه المقالاتُ والتعليقاتُ، وتتواصَلُ فيه المُتابعات والتغريدات، حتى يجعلُوه إما أُعجوبةَ الدهر، وإما قاصِمةَ الظهر. من غير مِصداقيةٍ ولا تروٍّ ولا مُعالجةٍ صحيحة، ثم ينقشِعُ الغُبار، ويتبيَّنُ الحال، فلا ترَى أثرًا، ولا تسمعُ خبرًا، إرباكٌ للنفوس، وصرفٌ عن المُهمِّ، وإشغالٌ عن مصالِح الأمة. يصحَبُ ذلك كلَّه تخويفٌ وتهويلٌ وتضليلٌ.

     تُرى - يا عباد الله - من الذي يصنعُ ذلك كلَّه؟ ومن الذي يحمِلُ وِزرَ هذه المُجازفات؟ إنه الإرجافُ والمُرجِفون. يُثيرُون ما يُولِّدُ الاضطرابَ والقلقَ، وينشُرون ما يُورِثُ عدمَ الاستِقرار، ويبُثُّون كلَّ ما يُحبِطُ ويُثبِّط. يخُوضُون في الأمور العامَّة من قبل أن يتبيَّنُوا حقائقَها، أو ينظرُوا في آثارِها وعواقبِها.

الإرجاف والمرجفون

في الإرجاف تُبتَرُ العبارات، وتُقطعُ النصوصُ عن سِياقاتها وسِباقاتها، ثم يكون التعليقُ عليها بما لا يجُوز وما لا يصحُّ، وما لا تتحمَّلُه تلك النصوص، وما لا تصحُّ فيه النسبةُ لقائلٍ.

الإرجافُ والتخذيلُ يُوهِنُ العزائِم، ويُثبِّطُ الهِمَم، ويُضعِفُ القُوَى، ويفُتُّ في العضُد، ويُشكِّكُ في القُدرات والإمكانات، ويُعظِّمُ الأعداءَ في الأعيُن، ويتبنَّى قصصًا وقضايا وأحداثًا تدورُ حول الإحباط والتشاؤُم والفشَل.

     أهلُ الخير عندهم لا مكانَ لهم، وأهلُ الباطل في رُؤيتهم هم المُمسِكون بزِمام الأمور، فتُنتزَعُ الثقةُ من أهل الفضل، ويختفِي التأسِّي بالقُدوات وأهل الصلاح. يُعظِّمون من شأن الأعداء والخُصوم، ويتكلَّمون عن القُوَى في العالَم في عددهم وعُدَّتهم، يرفَعون من شأنهم ويحُطُّون من قومِهم وأهلِيهم. في ذِلَّةٍ وخُضوعٍ سيرًا في رِكابِ الأقوياء من الأعداء من حيث يشعُرون أو لا يشعُرون.

ماذا يريدون؟

المُرجِفون سبيلُهم التعويق والتخذيل ونشرُ الفتن، {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} (الأحزاب: 18)، {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} (التوبة: 47).

الإرجافُ سبيلُ المُنافقين، {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} (الأحزاب: 60).

     المُرجِفُ يتكلَّمُ عن الداء، ولا يُبالِي بالدواء. يُثيرُ العيوبَ ويُخفِي الفضائلَ، يقعُ على السلبيَّات ويصُدُّ عن الإيجابيات، فتظهرُ السوءات وكأنها هي السِّمةُ السائِدة في المُجتمع، والصفةُ الغالِبة في الأمة، في تخذيلٍ وتضليلٍ وشيءٍ من الحقِّ قليل. الإرجافُ في مآلاته عُدوانٌ على الأمة، وتطاوُلٌ على أهل الحق.

ميادين الإرجاف

     وميادينُ الإرجاف واسِعة؛ في الصحف، والمجلات، ومواقع العمل، والمسجد، والمدرسة، وأماكن التجمُّعات. فتُنشرُ الأخبار، وتتصدَّرُ الأحداث، وتُبرزُ في خطوطٍ عريضة، وصُورٍ كريهة، وأساليب ساخِرة. يُلبِّسُون ويُردِّدون ويُعلِّقون ويُضحِكون القومَ، يرفعُون من شاؤوا ويخفِضُون من شاؤُوا.

وتحمِلُ أدواتُ التواصُل الاجتماعي في ذلك وِزرًا كبيرًا، وإثمًا عظيمًا حينما تُسارِع في نشر الأكاذِيب، وتضخِيمِ الأحداث، وبتر الحقائِق، وتُكثِرُ من تداوُلها وإعادة تدويرِها.

عاقبة الإرجاف

     ولقد قرَّر أهلُ العلم أن الإرجافَ طريقٌ محرمة لا يجوزُ سلوكها، يقول القرطبيُّ - رحمه الله -: «والإرجافُ حرامٌ؛ لما فيه من أذِيَّة أهل الإيمان؛ بل ألأحقَه بعضُهم بكبائِر الذنوبِ؛ لأن الله لعنَهم في كتابِه، وقرنَهم بأهل النفاق، فقال: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا} (الأحزاب: 61)، وأمرَ نبيَّهم بنفيِهم ومُقاتلتهم»، وتشتدُّ الحُرمة في أيام الفتن، وظروف تسلُّط الأعداء، وما ذلك إلا لأن الإرجافَ لو فشَا في الناسِ فإنه لا يزيدُهم إلا شرًّا وفسادًا، وضعفًا وهوانًا، وفتنةً وفُرقةً.

مقاصد المرجفين

     إن للإرجافِ والمُرجِفين مقاصِد ومآرِب؛ من الإرهاب الفكريِّ، والحرب النفسيَّة، وتوهِين العزائِم، وإدخال الهمِّ والحزَن على أهل الحقِّ والغَيُورِين على مصالِح الدين والأوطان والأمة، وبثِّ الفتن والاضطراب بين الناس، وفُقدان الثقة، والنَّيل من الكُبرَاء وأهل الفضلِ والاقتِداء.

     ناهِيكُم ببعضِ المُغفَّلين الذين ينقُلون الأخبارَ والأحداثَ من غير تروٍّ ولا حِكمةٍ، ولا نظرٍ في المصالحِ والمفاسِدِ، والمقاصِدِ والمآلاتِ، من المُسارِعين والمُسابِقين في مُنافساتٍ غير شريفةٍ؛ بل قد يكون باعِثُه كُرهَ الآخرين، والتعصُّب المقيتَ من أجل إساءَة السُّمعة، وخفضِ المكانة، وهزِّ الاستِقرار، ونَزعِ الثقةِ.

     ولهذا فيُلاحَظُ - عباد الله - اقتِرانُ الإرجاف بالفوضَى والتشتُّت والانفِلات، والبُعد عن الانضِباط والهُدوء. فلا يُرى مُرجِف إلا قلِقًا مُكتئِبًا مُتوجِّسًا، سيِّئَ الظنِّ، مُحبَطَ النفس، دائِمَ الشكوَى، كثيرَ التبرُّم، عابِثَ الملامِح. الأملُ عنده خيبة، والإنجازُ لديه عَثرة، لا يرى إلا القسوةَ والشرَّ، ويعمَى أن يرَى البُشرَ في الوُجوه، والخيرَ في الناسِ.

إدراك خطورة الإرجاف

     فعلى أهل الإسلام الغيُورِين إدراكُ خطورة هذا المسلَك، وعِظَمُ إثمِه وعظيمُ أثره، وعليهم التحرِّي في النقل وفي الاستِماع دون مُبالغاتٍ كلاميَّة، ولا مُؤثِّراتٍ صُورية؛ فالمُسلِمون في خندَقٍ واحدٍ وسفينةٍ واحدةٍ، وأهلُ الإيمان لا يضُرُّهم من خذلَهم ولا من خالفَهم، {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} (آل عمران: 120).

     واحذَر - يا عبد الله - أن تكون مُرجِفًا، أو أن يُرجَفَ عليك. كم هو جميلٌ أن تجعلَ من أُذنِك غِربالَ تصفيةٍ لتُميِّز أصواتَ المُخذِّلين، ونداءات المُرجِفين، وتسمعَ إلى القول فتتبِّعَ أحسنَه، واحذَر - حفِظَك الله - أن تكون مُخذِّلاً لأمتك، ناصِرًا لأعدائِها من حيث تشعُر أو لا تشعُر، وليعلَم كلُّ صاحبِ قلمٍ وموقعٍ وتدوينٍ أنه موقوفٌ بين يدَي الله، مسؤولٌ عن كل حرفٍ يُسطِّره، أو لفظٍ يُدوِّنُه، أو صُورةٍ ينشُرُها.

من سبل المرجفين

     ومن الإرجافِ وسبيلِ المُرجِفين: مُحاولةُ التشويش على المُسلمين، والقصدُ إلى نشر الفوضَى والبلبَلَة تحت أي دعوَى، واستِهدافُ رابِطةِ الإسلام التي لا يعدِلُها  رابِطة، وأُخُوَّةُ الدين التي لا يُماثِلُها أُخُوَّة، ولاسيَّما حينما يتوجَّهُ المُسلِمون إلى هذه البلاد والديارِ المُقدَّسة حجًّا وعُمرةً وزيارةً، فإنهم يتمثَّلُون وحدتَهم الجامِعة، ويتناسَون خلافاتهم، {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (البقرة: 197).

     بل إنهم يُوقِنون وهم مُتوجِّهون إلى هذه الديار الطاهِرة في شعائِرِها ومشاعِرِها، مُوقِنون أنها ليست ميدانًا لنقل الخلافات وتصفِية المواقِف، لكن يأتي هؤلاء المُرجِفون من أعداء الأمة ومن يدورُ في فلَكِهم، ويُحاولون أن يصرِفُوا الأنظارَ عن مُعاناةٍ يعيشُونها في بلادهم، ومُشكلاتٍ يُعانِي منها مُواطِنوهم، ويُريدون في إرجافِهم أن يستغِلُّوا مواسِم العبادة، وتجمُّعات المُسلمين، والمشاعِر المُقدَّسة لأغراضٍ مُسيَّسة، وتشويشٍ وبلبَلَة؛ مما يقودُ إلى الانشِقاقات والفُرقة وزرع الفتن.

     إن جرَّ المُسلمين إلى هذا إفسادٌ لمقاصِد هذه الشعائِر والمشاعِر، وسعيٌ في حِرمانِ ضُيوفِ الرحمن من الأمن والأمان، والتفرُّغ للعبادة، واستِشعار قُدسيَّة الزمان والمكان. في مسيراتٍ ومُظاهراتٍ وتجمُّعاتٍ ونداءاتٍ وشِعاراتٍ ليست من دينِ الله في شيءٍ، مما لم يأذَن به الله في كتابِه، ولا رسولُه صلى الله عليه وسلم في الصحيح من سُنَّته، ولم يقُل به أحدٌ من أهل العلم، ولم يفعَله أحدٌ من أهل الإسلام سلَفًا وخلَفًا، من أجل هذا فإن من ثوابِتِ سياسةِ المملكة العربية السعودية، خادِمة الحرمين الشريفين وراعيتهما وحاميتهما - بإذن الله - عدمُ السماح لأي أحدٍ أو أي جهةٍ بتعكير صفوِ المُقدَّسات، والعبَث بأمن الحُجَّاج والعُمَّار والزوَّار، وهي مُلتزِمةٌ ومسؤولةٌ عن اتِّخاذ كل التدابير الحازِمة الصارِمة للحِفاظ على أمنِ البلاد وأمنِ الناس؛ المُواطِن والمُقيم والعاكِف والبادِي.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك