رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 13 يوليو، 2020 0 تعليق

بندر بن ليلة إمام الحرم المكي: الغفلة تصرف الإنسان عن الذكر وتتبع نفسه هواها

 

 

إن الله -تعالى- خلق القلوب لتكون عارفة به، متعرفة إليه، موصولة به، لا يصدها عن ذكره صادٌّ، ولا يشغلها عن التفكر في آياته رادٌّ، غير أنه قد تعرض لهذه القلوب أدواء وحجب تحول بينها وبين ما خُلِقَت له، وتزيلها عن حالها التي أُريدت لها، ومن أخطر ما يعرض لها وأضره، داء الغفلة؛ فإنه رُقاد القلب، وانصرافه عن الذكر، وإعراضه عن التذكرة، حتى يتابع النفس فيما تشتهيه، ويفقد الشعور بما حقُّه أن يشعر به ويوقف عنده.

 

 

 

 

     ومن هذه الغفلات، الغفلة عن التفكر في الآيات الكونية والشرعية، فتأتي واحدة بعد واحدة، والقلوب لاهية سامدة لا تنبعث إلى تصديق وإيمان، ولا تنجفل إلى خوف وخضوع وتضرع وإذعان. {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}، وذلك الشأن إذا وردت الآيات على محل غافل غير قابل للتذكرة، فكأنما هي غيث ينزل على أرض ليحييها، لكنها قيعانٌ لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ.

الغفلة عن الدار الآخرة

     ومنها الغفلة عن الدار الآخرة، وما تستحقه من السعي لها حق سعيها، وإعداد الحرث لها قبل أن يأتي يوم الحسرة للغافلين، قال -سبحانه-: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}، فحظ هؤلاء الغافلين أنهم منقطعون إلى الدنيا لا يتجاوز علمهم هذه الدار إلى غيرها، وهم مع ذلك إنما يعلمون ظاهرها البَرّاق دون حقيقتها وشرها، فيعرفون ملاذها وملاعبها وشهواتها، ويجهلون مضارها ومتاعبها وآلامها، يعلمون أنها خُلقت لهم، ولا يعلمون أنهم لم يخلقوا لها، يشغلهم حال الإخلاد إليها والاطمئنان بها، ويغفلون عن فنائها وزوالها. فهي قصيرة وإن طالت، دميمة وإن تزينت.

هنالك حقت حسرتهم

فإذا أتت الآخرة التي غفلوا عنها، هنالك حقت حسرتهم، يوم لا تنفع الحسرة، قال -سبحانه- يصوّر ذلك الحال: {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون}، هذا يوم يُقضى بين الخلائق، فمنهم شقي وسعيد، منهم خالدٌ في الجنة ومنهم خالدٌ في السعير، فأما أهل الجنة ففي نعيم وحبور، وأما أهل النار ففي حسرة وثبور.

خلودٌ فلا موت

     عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فيناد منادي: يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه. ثم ينادي: يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه. فيُذْبَح ثم يقول: يا أهل الجنة خلودٌ فلا موت، ويا أهل النار خلودٌ فلا موت، ثم قرأ {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}. أخرجه الشيخان في صحيحيهما.

السبيل إلى علاج الغفلة

     والسبيل إلى علاج هذه الغفلة، العلم والبصيرة بحال الدنيا، وإنزالها منزلتها، وترك الاستغراق فيها، حتى لا يستولي حُبها على القلوب، فتغفل عن الآخرة، فإن الدنيا والآخرة ضرتان، بقدر إرضاء إحداهما تسخط الأخرى، وبقدر تَعَلُّق القلب بإحداهما ينصرف عن الأخرى، ولا علاج لذلك إلا بأن تكون الآخرة هي الغاية، والدنيا هي الوسيلة إليها، فإذا كانت كذلك، فهي مزرعة الآخرة ونعمت المزرعة.

الغفلة عن الاعتبار بأحوال الأمم

     ومن الغفلة اللاهية أيضا، الغفلة عن الاعتبار والاتعاظ بأحوال من مضى من الأمم، فما أكثر العبر وما أقل الاعتبار! وما أريد من تلكم الأخبار غير الاعتبار، فليست مجرد أحداث تاريخية نَمُر عليها ونحن عنها غافلون، وليست أحاديث تُحكى للتَفَكُّه والتخيل ونحن معرضون ! كلا والله، بل هي ديوان مفتوح لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وجل -سبحانه-؛ إذ يقول {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.

من أعظم أنواع الغفلات

     وإن من أعظم أنواع الغفلات، الغفلة عن ذكر الله -تعالى-؛ فهي الجالبة لغيرها من الغفلات، المحيطة بألوان من التيه والضياع والشتات، ولذلك قال -تعالى- آمرا نبيه بالذكر وناهيا عن الغفلة {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} فجعل -سبحانه- تارك الذكر غافلا، وسبيل العلاج من هذه الغفلة، هو دوام الذكر ومجاهدته، وذلك أن الذكر ينبه القلب من نومته، ويوقظه من سِنَتِه، والقلب إذا كان نائماً فاتته الأرباح، وكان الغالب عليه الخسران، فإذا استيقظ وعلم ما فاته في نومته، شدّ المئزر وأحيا بقية عمره، واستدرك ما فاته، ولا تحصل يقظته إلا بالذكر، فإن الغفلة نومٌ ثقيل.

العلاج النبوي

ومما يُأَمِّن من هذه الغفلة ويعصم منها، ذلكم العلاج النبوي الشريف الذي أخبر عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بقوله: «من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمئة آية كتب من القانطين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين» أخرجه أبو داوود بسند صحيح.

تراكم الذنوب

     وإن من أعظم أسباب الغفلة، تراكم الذنوب على صفحات القلوب، وكل ذنب لم يتب منه صاحبه فلابد أن يكون له تأثيره على صفاء البصيرة ونورها، وإنّ العبد ليذنب وإنها لتظلم شيئاً فشيئاً حتى تصدأ كما يصدأ الحديد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكِتت في قلبه نُكْتَة سوداء، فإذا هو نَزَع واستغفر وتاب، صُقِلَ قلبه، وإن عاد زِيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}». رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.

صدأ القلب بأمرين

     قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: صدأ القلب بأمرين، بالغفلة والذنب، وجلاؤه بشيئين، بالاستغفار والذكر، فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته، كان الصدأ متراكبا على قلبه، وصدأه بحسب غفلته، وإذا صدأ القلب لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه، فيرى الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل. فإذا تراكم عليه الصدأ واسود وركبه الران، فَسَدَ تصوره وإدراكه، فلا يقبل حقاً ولا ينكر باطلاً. وهذا من أعظم عقوبات القلب، وأصل ذلك من الغفلة واتباع الهوى، فإنهما يطمسان نور القلب ويعميان بصره، قال -تعالى-: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}.

منادي الإيمان

     ألا لقد أَسْمَعَ منادي الإيمان لو صادف آذانا واعية، وشَفَت مواعظ القرآن لو وافقت قلوبا خالية، ولكن عصفت على القلوب أهواء الشبهات والشهوات، فأطفأت مصابيحها، وتمكنت منها أيدي الغفلة والجهالة، فأغلقت أبواب رشدها وأضاعت مفاتيحها، وران عليها كسبها فلم ينفع فيها الكلام، وسَكِرَت بشهوات الغي فلم تصغِ بعده إلى الملام، ووُعظت بمواعظ أنكى فيها من الأسِنة والسهام، ولكن ماتت في بحر الجهل والغفلة، وأَسْرِ الهوى والشهوة، وما لجرح بميت إيلام.

 

 

خطبة الحرم المكي - بتاريخ12/11/1441هـ

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك