رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: فَتْحي بِن عَبدِ الله المَوْصِليِّ 18 أغسطس، 2020 0 تعليق

بناء الأمة الواحدة بين التنظير الفكري والتأصيل الشرعي


عندما تتكرر لفظة أو جملة في القرآن في سياقات متشابهة ومتقاربة؛ ففي هذا التكرار إشارة إلى الاعتناء بمضمون هذه الجملة، وأنها ضرورية في فهم تلك السياقات التي غالبا ما تأتي لتقرير قواعد كلية أو بيان سنن عامة شرعية، حتى ينتهي الباحث بهذا النظر والاستقراء إلى تقرير الحقائق ومعرفة القوانين والقواعد، وبالتالي يتعامل مع واقعه في الإصلاح والتغيير بتلك القوانين والقواعد لا بالتأويل أو التنظير، ومن تلك الجمل المتكررة في القرآن في سورة البقرة وآل عمران والشورى والجاثية، قوله -تعالى-: {إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}.

     وهذه الجملة تحتاج إلى وقفات طويلة ودراسات تفسيرية وتربوية دقيقة؛ لأنها تشخيص للداء، ووصف للدواء، وبيان للأغراض في سياق متكرر في الكلام على مرض التنازع والاختلاف وأسباب هلاك الأمم في انحرافها عن منهج الاعتدال في فهم الإسلام؛ فقال -تعالى-: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}.

قانون الأمة الواحدة

     وقال -تعالى- في سياق أن الخروج عن قانون الأمة الواحدة يرجع إلى السبب المتكرر؛ فقال -تعالى-: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}، وفي هذه الآية إشارة عظيمة إلى أن الذي وصلهم لم يكن مجرد معلومات عامة، وإنما حجج ظاهرة وبينات قاطعة؛ كما قال -تعالى- في سورة الجاثية: {وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}.

حقائق ووقفات

إن في هذا التكرار حقائق ووقفات أشير إلى ثلاث منها:

البغي

- الحقيقة الأولى: أن سبب الاختلاف في جميع الأمم هو: البغي الذي يعرّفه العلماء بأنه: مجاوزة الحد (إما تضييعٌ للحق، أو تعدٍّ للحد).

الاختلاف بعد العلم

- الحقيقة الثانية: أن اختلافهم وقع بعد وصول العلم إليهم، فلم يكن اختلافهم لعدم العلم؛ بل علموا لكن بغى بعضهم على بعض.

الحسد

- الحقيقة الثالثة: أن الحامل على البغي هو الحسد وطلب العلو في الأرض، حتى في التعامل مع العلم وأهله، وفي الاختلاف فيه، وفي تضييع العمل بموجبه؛ فبدل أن يقيموا العدل في تحصيله ونشره انتهى بهم الأمر إلى أن بغى بعضهم على بعض في ميادينه.

فهم العلاج

- والحقيقة الأولى: سببية، بينت الدافع على الاختلاف.

- والحقيقة الثانية: زمنية، بينت زمان البغي.

- والحقيقة الثالثة: حالية، بينت حالهم في البغي والحسد والظلم.

فلا مناص في فهم العلاج إلا بفهم هذه الحقائق القرآنية التي توضح الطريق لفهم السبب، ومعرفة الوقت الذي يظهر فيه المرض، وحال المريض وأعراضه.

شهادة علمية وتاريخية

     وهنا شهادة علمية وتاريخية يجب أن نقف عندها، وهي: أن مجتمع الصحابة -رضي الله عنهم- في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي عهد الخلفاء الراشدين كان مؤسسا على العدل لا على البغي، وعلى الإيثار لا على الأثرة، وعلى الحب والودّ لا على الكيد والحسد، وعلى حفظ العلم لا على تضييع حقوقه؛ فلما وصلهم العلم الموروث عن نبيهم قاموا بحفظه في أنفسهم وفي غيرهم سلوكاً وتربيةً ومنهجاً ودعوةً، حتى صارت أعمالهم واجتهاداتهم دليلا على العلم؛ فصاروا طائفتين: طائفة هم ورثة الأنبياء وهم العلماء، وطائفة هم خلفاء الرسل وهم القضاة والحكام؛ لهذا لم يقع الاختلاف بينهم إلا خلافا ناتجا عن تأويل أو واقعاً بسبب عدم بلوغ النص والدليل.

حال الصحابة -رضي الله عنهم

وهذا الأساس المتمثل في حال الصحابة -رضي الله عنهم- بعد وصول العلم إليهم هو من أسباب اجتماعهم ووحدة دعوتهم؛ لهذا كان نظر الصحابة -رضي الله عنهم- في العلم نظرا كاملا جامعا، وهو نظر ثلاثي الرتبة:

- الأول: نظر إلى العلم في حال الاستعداد لطلبه فكان نظرهم فيه نظر نية وعبادة.

- الثاني: نظر إلى العلم في حال تلقيه ووصوله إليهم، وكان نظرهم فيه نظر فقه وتدبر.

- الثالث: نظر في العلم في حال العمل به ونشره، وكان نظرهم فيه نظر رحمة وعدل لا نظر بغي وجدل.

النظر الجامع

     فسلم العلم لهم بهذا النظر الجامع بوسائله ومقاصده وحقائقه، حتى جاءت الثمرة والنتيجة الكبرى وهي نشوء المجتمع الإسلامي المحكوم بسنن العلم وأخلاقه وآدابه ولوازمه لا بسلوكيات البغي وأحزابه، ولهذا كان تصحيح النظر إلى العلم وحسن التعامل معه على وفق القواعد والقوانين القرآنية في عهد الصحابة بمثابة المقدمات اليقينية الراسخة لبناء المجتمع الإسلامي؛ فكان القدر المشترك والرابط الوثيق بين أفراد المجتمع هو البناء العلمي المتنوع في واجباته وحاجاته والمتكامل في أغراضه ومقاصده؛ فانقسم المجتمع الأول إلى التقسيم العلمي وليس إلى التقسيم الحزبي؛ فظهرت جماعة أهل الحديث، وجماعة أهل التفسير، وجماعة أهل الرأي، ونسمع عن طائفة القراء وأهل الحسبة والجهاد، وصارت تظهر طوائف العباد من أهل الرقائق والاتباع وأهل الصدقات والعطاء؛ فكانت روابط المجتمع في ذلك الوقت تارة في صورة أهل العلم والاختصاص، وتارة في صورة أهل المصالح والأعمال، وتارة ثالثة في صورة أهل العبادة والطاعات؛ فكانت هذه التصنيفات العلمية التربوية منطلقات أساسية لبناء المجتمع الإسلامي الأول؛ من غير انقسامات فكرية ولا ضلالات بدعية ولا تعصبات حزبية ولا مجادلات كلامية.

بناء المجتمع الإسلامي الأول

لهذا يمكن القول -جزمًا- بأن بناء المجتمع الإسلامي الأول كان قائماً على أساسين:

- الأول: القيام بالتخصصات والواجبات العلمية النافعة.

- والأساس الثاني: التربية الإيمانية العادلة.

من هنا تكون البداية

     فمن هنا تكون البداية، في تصحيح النظر إلى العلم وتهذيب التعامل مع ومع أهله وفنونه، بخلاف ما نراه اليوم؛ فقد صارت العلوم في زماننا موضوعةً -عند بعضهم- للتقاطع والتنافر لا للتراحم والتناصح، وبالبغي والحسد لا بالإنصاف والعدل، حتى تحولت بعض الجموع العلمية والمجامع الدعوية إلى مهددات لوحدة الأمة ومعوقات لبناء المجتمع الإسلامي؛ فلا الاجتماع حققوا ولا العلم نشروا.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك