بقاء تاريخ مكة مضمون ببقاء البيت العتيق والمشاعر وما حولها من الحرم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد.
كثر الكلام حول المحافظة على الآثار في مكة شرّفها الله؛ لأن هذا يكون حفظاً لتاريخها كما يقولون، وضياع تاريخ مكة ضياع لتاريخ الأمة، ونحن نقول: إن حماية مكة ومقدساتها واجب على كل مسلم، وذلك بالمحافظة على ما خصَّها الله به من وجود البيت العتيق والمشاعر وما أحاطت به حدود حرمها، قال تعالى {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } (القصص: 68)، وقد اختار من الأماكن مكة المشرفة لما فيها من البيت العتيق والمشاعر وما جعله حولها من الحرم الآمن، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } (العنكبوت: 67). وفي هذا الحرم الآمن البيت العتيق الذي جعله الله مثابة للناس وأمناً وأوجب على المسلمين استقباله في صلواتهم وأوجب عليهم حجه. قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } (آل عمران: 97)، فلا حج إلى غيره ولا يتوجه في الصلاة إلى غيره وحوله المشاعر التي هي منى ومزدلفة وعرفة تؤدى فيها مناسك الحج، وحولها الحرم المحيط بها من جميع الجهات لا ينفّر صيده ولا يختلى خلاه ولا تلتقط لقطته إلا لمنشد: {ومن دخله كان آمناً} حتى من الصيد. وهذا البيت مؤسس على التوحيد بعبادة الله وحده لا شريك له {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَلَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } (الحج: 26)، وقد منع الله المشركين من قربان المسجد الحرام فقال سبحانه: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} (التوبة: 28) وعند ذلك بعث النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ينادي في مواسم الحج: «أن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان»، والمشرك هو من يدعو غير الله من صنم أو قبر أو نبي أو ولي أو جن أو إنس، فهذا البيت بني على التوحيد ومن مكة بعث نبي التوحيد محمد صلى الله عليه وسلم وقد بناه إبراهيم وابنه إسماعيل على التوحيد.
فيجب أن تبقى مكة مصدر التوحيد لكل من حج واعتمر وعكف حولها ومن صدر منها إلى كافة أقطار الأرض.
ولما استولى المشركون على هذا البيت في الجاهلية نصبوا فوقه ثلاثمائة وستين صنماً ونصبوا فوق الصفا والمروة إسافاً ونائلة وحول مكة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة كسر هذه الأصنام وأحرقها وهو يتلو قوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } (الإسراء: 81)، وأرسل إلى ما حول مكة من الأصنام الثلاثة من هدمها فعاد البيت وما حوله خالياً من الأصنام ومُنع المشركون أن يقربوه.
وكما أن الله طهر هذا البيت من الشرك ومظاهره وأهله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حرم كل الوسائل التي تفضي إلى الشرك من تعظيم الآثار التي تتمثّل بتعظيم البيوت التي تنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وأصحابه فلم يحافظ عليها ولا أمر بالمحافظة عليها، ولما سُئل عام الفتح: أتنزل في دارك غداً؟ قال: «وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟» وعقيل هو عقيل بن أبي طالب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم لأنه باعها، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم باسترجاعها والمحافظة عليها، بل تركها تُباع وتُشترى ويسكن فيها حسب الحاجة وتهدم إذا احتيج إلى هدمها كسائر بيوت السكن خصوصاً إذا احتيج إلى هدمها لتوسعة المسجد الحرام، فيجوز لولاة أمور المسلمين عندنا أن يوسعوا المسجد وأن يهدموا ما حوله من البيوت مما يحتاج إلى هدمه من غير نكير، ولم يقل أحد إن هذا إزالة لتاريخ مكة، وكذلك لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بعد البعثة يذهب إلى غار حراء ولا إلى غار ثور بعد الهجرة ولم يكن أصحابه يفعلون ذلك ولم يكن صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه يذهبون إلى أي مكان في مكة بقصد التعظيم والتبرّك إلا إلى المشاعر (عرفة ومزدلفة ومنى) لإقامة مناسك الحج المشروعة فيها وقت الحج؛ قطعاً لوسائل الشرك ومنعاً للزيادة في الدين ما لم يشرعه الله.
ويسع المسلمين الآن ما وسع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، وقد قال صلى الله عليه وسلم : «عليكم بسنتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة»، وتاريخ مكة المشرّف قد حفظه الله تعالى في القرآن الكريم بذكر البيت العتيق، قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (آل عمران: 96 - 97)، وقال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} (القصص: 57)، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (العنكبوت: 67) وقال تعالى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} (البقرة: 126) وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} (النمل: 91) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج: 25) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : “إن هذا البلد حرَّمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة”.
وهي بلدة التوحيد ومنبع الإسلام يجب أن تبقى كما خلقها الله وعلى ما تركها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح مثابة للناس وأمناً، يتعلّم الوافد إليها عقيدة التوحيد والسنّة وترك الشرك والبدعة كما طهرها الخليلان إبراهيم ومحمد عليهما السلام بأمر الله تعالى من الشرك ووسائله ومن البدع والمحدثات، لا يقربها المشرك ولا يقر فيها مبتدع ولا يعظم فيها غير البيت العتيق والمشاعر وما يحيط بها من الحرم، فهي منبع الرسالة ومهبط الوحي ودار التوحيد والعبادة ومصدر العقيدة الصحيحة إلى سائر أقطار الأرض.
وفق الله للحفاظ عليها وللعلم أهلها وولاتها وعلماءها ومؤرخيها والقائمين عليها والوافدين إليها للمحافظة وللعلم النافع الصالح والدعوة إلى الله على بصيرة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
لاتوجد تعليقات