بعد قرار (العدل الدولية) بشرعية الاستقلال-محكمة لاهاي عززت آمال ألبان كوسوفو في الانضمام للأمم المتحدة
لعل إقرار محكمة العدل الدولية بشرعية إعلان كوسوفو الاستقلال عن صربيا وتأكيدها أن القرار لا يشكل انتهاكًا للقانون الدولي لم يأت بجديد، فصدوره بهذه الصيغة كان متوقعًا حتى بالنسبة للمعسكر الرافض لإعلان الاستقلال بقيادة صربيا وروسيا خصوصًا أن تأييد الدول الكبرى لخطوة الاستقلال قد شكل عامل ضغط كبير على هيئة المحكمة المكونة من 10 قضاة أيد 6 منهم قرار الاستقلال فيما عارض 4 منهم الخطوة معتبرين أنها تشكل انتهاكًا للقانون الدولي وسلامة ووحدة أراضي الدولة القائمة، وهو الحكم الذي شكل هزيمة جديدة لكل من صربيا وروسيا وانتصارًا شبه كبير لألبان كوسوفو.
ومن البديهي التأكيد أن محكمة العدل الدولية قد استندت في قرارها بشرعية استقلال كوسوفا إلى اعتبارها جزءًا من جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية السابقة وليست جزءًا من جمهورية صربيا بحسب تفسيرها لقرار مجلس الأمن (1244) الصادر عقب نجاح (الناتو) في طرد القوات الصربية من الإقليم أواخر التسعينيات من القرن الماضي وعلى اعتبار أن الاستقلال جاء وفق المعايير التي انفرط بموجبها عقد الاتحاد الفيدرالي المقبور وما نتجه عنه من تأسيس عدد من الدول، فضلاً عن الاستناد إلى رغبة سكان الإقليم السابق المؤيدة للاستقلال بشدة والخروج من ربقة الهيمنة الصربية وعدم وجود نص في القانون الدولي يمنع من إعلان الاستقلال لأي شعب.
ويظهر من ديباجة القرار صياغته بشكل فضفاض فهو لا يرتب حقوقًا قانونية لأي طرف سواء ألبان كوسوفو أو أي جماعة انفصالية تمارس نشاطها في أي من دول العالم، فهو حالة خاصة لا يقاس عليها وتخص الأوضاع في كوسوفو فقط التي خاض مواطنوها صراعًا داميًا مع صربيا وفشلت جهود مكثفة من قبل أطراف دولية ومشاورات طويلة بين الطرفين لتحديد مصير الإقليم السابق قبل إعلان ألبان كوسوفو الاستقلال من جانب واحد في فبراير من عام 2008.
سعادة غامرة
وقد قوبل القرار بارتياح شديد من قبل مسؤولي حكومة كوسوفو ومواطنيهم الألبان فهو سيشكل من دون شك رافعة جديدة ستنطلق منها بريشتينا لتنشيط عملية الاعتراف بها من قبل عشرات من دول العالم كانت قد ربطت قرارها بمصير الصراع القانوني مع بلجراد حول شرعية الاستقلال، وهو ما يمكن الألبان من الانضمام للجمعية العامة للأمم المتحدة إذا نجحوا في حث بلدان العالم على تجاوز الرقم (69) للدول المعترفة بالاستقلال حتى ساعة صدور قرار محكمة العدل الدولية.
وستعمل بريشتينا بكل ما أوتيت من قوة لاستغلال القرار لتفريغ المعارضة الروسية الصربية المؤيدة من خمس دول أوروبية من مضمونها عبر التأكيد لدول العالم أن استقلال كوسوفو لا يعد انتهاكًا لسيادة الدول ولا يغري أصحاب النزعات الانفصالية في مختلف دول العالم لتكرار نفس الخطوة باعتبار أن الأحداث الدامية التي شهدها الإقليم السابق منذ 1989 وما تبعه من تصفية عشرات الآلاف من الألبان لم تجر في أي بقعة من العالم فضلاً عن أن خطوة الاستقلال ستجلب مزيدًا من الاستقرار لمنطقة البلقان، بل قد تؤشر لعلاقات جوار جيدة مع صربيا تنهي عقودًا من التوتر بين الطرفين.
حرب أعصاب
بل إن ساسة كوسوفو سيحاولون الاستفادة القصوى من قرار المحكمة، فهم لم يكتفوا بحث دول العالم على الاعتراف بهم بل إنهم مارسوا نوعًا من حرب تكسير العظام مع بلغراد بحثها على الإقرار باستقلالهم، وطالبوا على لسان رئيس الوزراء هاشم تاتشي ووزير خارجيته ألكسندر الحسيني باستخدام لغة (الجزرة) مع صربيا بإمكانية جنيها فوائد على المستوي الدولي في حالة الاعتراف بالكيان الكوسوفي بل طالبوا واشنطن صراحة باستخدام نفوذها لدى بلغراد لتليين موقفها.
وقد أشعلت ردود فعل الألبان قلقًا شديدًا داخل الدوائر الصربية وكرست نوعًا من المخاوف من استغلال الألبان لهذه الخطوة لتعزيز الاستقلال وهو ما عكسته مناقشات داخل البرلمان الصربي أكد خلالها وزير خارجية صربيا فوك يرميتش أن حوالي 55 دولة لم تعترف بكوسوفو توشك على الاعتراف باستقلالها وذلك بعد قرار محكمة العدل الدولية.
وشدد يرميتش على إمكانية فشل بلاده في إيقاف الكثير من دول العالم عن الاعتراف بكوسوفو خصوصاً إذا ما أخذ بعين الاعتبار أن العديد من تلك الدول قد ربط الاعتراف باستقلال كوسوفو بموقف محكمة العدل الدولية التي أكدت عدم تعارض استقلال كوسوفو مع القانون الدولي، كاشفًا عزم بلاده عن القيام بحملة دبلوماسية جديدة لثني بعض دول العالم عن الاعتراف.
وتكشف تصريحات الساسة الصرب إصرارهم على المضي قدمًا في معارضة خطوة الاستقلال مدعومين من روسيا وخمس دول أوروبية ما زالت على رفض الاعتراف بكوسوفو، حيث أكدت على لسان مسؤوليها أن معارضتها للاستقلال لن تتغير.
إثارة المخاوف
بل إن بلغراد ستحاول مؤيدة من حليفتها موسكو التدخل لدى دول العالم المترددة في إقرار الاعتراف بالبلد الأحدث في العالم بالاستمرار في تبني نفس الموقف من خلال إيجاد نوع من (الفوبيا) لدى ما يقرب من 66 بلدا يعاني مثل هذه النزعات، بل إن صربيا تبنت نهجا متشددًا بتحذير دول العالم بأن هذا الحكم سيشكل تهديدًا لوحدة الدول التي تعاني نزعات انفصالية بحسب بيانات رسمية «اعتبارًا من الآن ستستهوي أناسا في العالم كتابة إعلانات استقلال ستكون بالطبع بمعناها الضيق متوافقة مع القانون الدولي بحسب المحكمة».
وتعول صربيا على حليفتها موسكو المعارض الأبرز لاستقلال كوسوفو للاستمرار في موقفها المناوئ لانضمام بريشتينا للجمعية العامة للأمم المتحدة وحثها على استخدام حق الفيتو في حالة عرض انضمام كوسوفو للأمم المتحدة حال تحقيقها للنصاب الدولي المؤهل لهذه الخطوة.
تبادل للأراضي
ولا يخفى على أي متابع أن قرار محكمة العدل الدولية الأخير لم يحمل تأثيرًا حاسمًا في خطوة الاعتراف، فالألبان والقوى المؤيدة لهم لن يتراجعوا عن الاستقلال وهو ما يتكرر مع الصرب وحلفائهم الروس، وهو ما يؤكده السفير عبد الله الأشعل أستاذ القانون الدولي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، حيث يرى أن الأهمية الأولى للقرار تنبع من أنها تدفع بخيار الحل الوسط بين بلغراد وبريشتينا إلى واجهة الأحداث رغم رفض الطرفين له طوال الفترة الماضية وحديث دوائر دولية على استحياء عن إمكانية قبول بلغراد وبريشتينا بعملية تبادل للأراضي، حيث تسيطر صربيا على أجزاء واسعة من شمال كوسوفو بما فيها المناطق ذات الأغلبية الصربية وتترك للألبان مناطق في جنوب صربيا محاذية للإقليم مقابل إقرار بلغراد الاعتراف بكوسوفو وتبادل التمثيل الدبلوماسي معها ووقف عرقلة محاولات انضمامها للأمم المتحدة وقيام علاقات متميزة على الصعيدين السياسي والاقتصادي بين البلدين الجارين.
ودلل الأشعل على إمكانية نجاح هذا الأمر بما يتردد عن وجود قنوات لمحادثات سرية بين صربيا وحكومة كوسوفو تدور في إحدى العواصم الأوروبية للبحث في ترتيبات قد تفضي لتسوية الخلافات بين الطرفين سيطرت عليها بالفعل عملية تبادل الأراضي بين الجارين اللدودين انطلاقًا من وجود يقين لدى بلغراد من أن قطار استقلال كوسوفو قد انطلق ولن يستطيع أحد إيقافه وبالتالي فإن من الواقعية البحث عن تحقيق أكبر قدر من المصالح من ورائه وفي المقدمة منها بالطبع مقايضة الأوروبيين على تسريع وتيرة المفاوضات لانضمام بلغراد للنادي الأوروبي والحصول على دعم سياسي وتكنولوجي ومالي يعيد هيكلة المؤسسات الصربية المترهلة.
وطالب الأشعل الدول العربية والإسلامية بالاعتراف باستقلال كوسوفو مشيرًا إلى أن قرار محكمة العدل الدولية قد أزال كثيرًا من العقبات أمام خطوة كهذه ولاسيما أن دولاً عربية عديدة قد أبلغت موفدين كوسوفيين ربطها خطوة الاعتراف بقرار المحكمة الدولية وهو ما تحقق بالفعل.
تسريبات وضغوط
وكانت إعلانات قد صدرت من بلغراد قبيل صدور قرار المحكمة الدولية عن إمكانية تبادل الأراضي مع كوسوفو قد عززت من أجواء التفاؤل بإمكانية إبرام هذه الصفقة فضلاً عن التصريحات التي أدلى بها رئيس وزراء كوسوفو هاشم تاتشي بأن صربيا تعي أنها ستعترف ذات يوم باستقلال كوسوفو، متابعًا: «لقد حصلت على تأكيد غير رسمي وخاص بأن بلغراد ستعترف ذات يوم بكوسوفو من مسؤولين كبار يحكمون حاليًا» في بلغراد، ورغم النفي الصربي لذلك فإن حديثهم عن إمكانية تبادل أراض مع كوسوفو يوحي بأن شيئا ما يلوح في الأفق عن حل ينهي آخر أزمات منطقة البلقان المضطربة بشكل يحفظ ماء وجه حكومة بوريس تاديتش المتخوفة بشدة من دخول موسكو على خط الأزمة والتوصل لصفقة مع واشنطن لا تضع مصالح بلغراد ضمن أولوياتها لتأمين انضمام بريشتينا للأمم المتحدة مقابل انتزاع تنازلات من واشنطن فيما يخص قضايا توسيع (الناتو) شرقا والدرع الصاروخية وغيرها.
صعوبات
غير أن إبرام هذه الصفقة لن يكون سهلا بحسب د.وحيد عبد المجيد الخبير بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، بل يحتاج لتدخل أطراف أخرى وجهود دبلوماسية مكثفة ستجري بين واشنطن وموسكو وسيتم العروج على أكثر من عاصمة غربية من بينها بروكسل للبحث في ما سيقدمه الاتحاد الأوروبي لإسالة لعاب بلغراد وإقناعها بقبول هذا الحل مقابل تعهدات وضمانات من موسكو وبلغراد بالتوقف عن أي مساع لعرقلة الاعتراف الدولي من بينها عدم استخدام موسكو حق (الفيتو) داخل مجلس الأمن حال طرح قضية انضمام كوسوفو للأمم المتحدة.
وأشار د.عبد المجيد إلى أن انتزاع هذه التنازلات من قبل موسكو وبلغراد شديد الأهمية لإقناع الرأي العام الألباني بالقبول بصفقة من هذا النوع ولاسيما أن قضية تقسيم الإقليم وحصول الصرب على جزء منه تواجه معارضة شديدة بين كل التيارات في كوسوفو وهي التسوية التي تحتاج إلى وقت طويل وجهد لإقناع كل الأطراف بها قبل طي صفحة آخر تداعيات انهيار الاتحاد اليوغوسلافي.
ورجح د.عبد المجيد أن يشجع قرار محكمة العدل الدولية عددا من الدول المترددة حيال الاعتراف بكوسوفو من بينها دول عربية وإسلامية للاعتراف بالاستقلال ولاسيما أن هذه الدول تعرضت لحجم كبير من الضغوط لتبني هذا النهج، وفي الوقت نفسه سيضغط على صربيا للقبول بالاستقلال كما قبلت في السابق بانفراط عقد الاتحاد اليوغوسلافي السابق .
لاتوجد تعليقات