بعد ثلاثين عاماً من توقيعها – اتفاقية كامب ديفد خنجر مسموم في خاصرة الأمة
تمر هذه الأيام الذكرى الثلاثون لتوقيع مصر اتفاقية السلام مع «إسرائيل» في اجتماع في البيت الأبيض خط فيها الرئيس الراحل أنور السادات ومناحم بيجين رئيس وزراء الكيان الصهيوني حينذاك بحضور الرئيس الأمريكي جيمي كارتر على نصوص اتفاق تجلو «إسرائيل» بموجبه جلاء مشروطًا عن سيناء عبر ترتيبات أمنية تنزع سلاحها، وتكتفي مصر بوجود رمزي لقوات أمنية في هذه المنطقة الملتهبة.
وتمنح هذه الاتفاقية المثيرة للجدل «إسرائيلي» اعتراف مصر الكامل بها وتبادل السفراء وتطبيع العلاقات في أغلب المجالات مع التزام مصر الحيدة التامة في أي صراع يندلع بين الدولة العبرية وأي من الدول العربية المجاورة، وهو ما التزمت به القاهرة حرفيًا حينما اندلعت الحربان بين «إسرائيل» ولبنان والحرب «الإسرائيلية» على غزة.
وعززت الدولة الصهيونية كذلك من قدراتها النووية لدرجة أن تقارير استخباراتية موثقة قدرت الرؤوس النووية لدى الدولة العبرية بما يتجاوز 200 رأس نووية قادر على إزالة المنطقة من الوجود دون أن تتوافر لأي من الدول العربية الفرصة للحذو حذو تل أبيب أو حتى الاقتراب منها، بل إن «إسرائيل» قد نجحت خلال فترة الاسترخاء العسكري مع مصر في توجيه ضربة قاصمة للمفاعل النووي العراقي "وزيراك"، وأحبطت محاولة لإيجاد نوع من الردع العربي للتفوق الصهيوني.
وخلال الثلاثين عامًا الماضية وجهت «إسرائيل» ضربات قاصمة للعديد من العواصم العربية، فقد قصفت طائراتها منطقة حمام الشط في العاصمة التونسية ومقر منظمة التحرير الفلسطينية، ونجحت في اغتيال القيادي الفلسطيني البارز مهندس الانتفاضة الأولى خليل الوزير «أبو جهاد» والعديد من القادة الفلسطينيين، ولعله كان آخرهم قيام عملاء الموساد «الإسرائيلي» بمحاولة اغتيال خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس.
وقصف الطيران «الإسرائيلي» العديد من الأهداف السورية وكان آخرها موقع قالت عنه أجهزة الاستخبارات الأمريكوصهيونية: إنه بداية مشروع نووي سوري بالتعاون مع كوريا الشمالية، وهو الأمر الذي فشلت في إثباته الوكالة الدولية للطاقة الذرية عبر وفدها الزائر لسورية عديدًا من المرات.
واستغلت «إسرائيل» اتفاقيات السلام مع مصر في تحقيق نجاحات سياسية واستراتيجية، فقد سمحت لها هذه الاتفاقية بإقامة علاقات دبلوماسية مع دول كانت لسنوات لا تجرؤ على المجاهرة بعلاقاتها السرية مع «إسرائيل» وعلى رأسها اليابان والهند والصين، وأقيمت سفارات لتل أبيب في هذه العواصم وتفتحت أمام الدولة العبرية المجالات للتعاون العسكري والاقتصادي عززت بها أوضاعها الاقتصادية والإستراتيجية.
ولم تتوقف النجاحات عند هذا الحد، فقد شهدت العقود التالية لاتفاقية السلام المصرية «الإسرائيلية» مزيدًا من الأرباح لتل أبيب تمثلت في التخفيف من حدة المقاطعة الاقتصادية العربية لـ «إسرائيل» والشركات المتعاملة معها من الدرجتين الثالثة والثانية ،وفتحت العديد من الدول العربية خلال هذه الفترة مكاتب تجارية في عواصمها للكيان الصهيوني رغبة منها وحسب ما تدعي في تشجيع مسيرة السلام، بل وصلت المكاسب «الإسرائيلية» مداها بتوقيع مصر والأردن لاتفاق المناطق الصناعية المؤهلة «الكويز» التي تسمح للكيان الصهيوني باختراق الاقتصاديات العربية فضلاً عن اختراق المجتمعات بأكملها وتهيئة الأجواء لتطبيع كامل بين الدول العربية والكيان الصهيوني.
وإذا كانت الدولة العبرية قد نجحت سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا وإستراتيجيًا في الاستفادة من هذه الاتفاقية وتحقيق إنجازات اقتصادية غير محدودة من خلال السطور السابقة فجدير بنا التأكيد أن اتفاقية السلام المصرية «الإسرائيلية» وحسب ديباجاتها وملاحقها المعلنة قد نصت على مواصلة السعي لتسوية شاملة في المنطقة تعيد الأراضي العربية المحتلة في سورية ولبنان وتنسحب خلالها من الضفة وغزة بشكل يعطي الشعب الفلسطيني الحق في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
بل إن التسوية التي حدثت بين «إسرائيل» والفلسطينيين والمعروفة باتفاق أوسلو لم تنجح في أن يرى الحلم الفلسطيني النو، بل عززت من سطوة وهيمنة الدولة العبرية وتمكنت من تحول أراضي الضفة الغربية إلى كانتونات وشقتها بجدار الفصل العنصري لتأمين البقاع الاستيطانية التي تلف مدينة القدس والمسجد الأقصى التي واصلت «إسرائيل» الحفريات حوله لدرجة أنه تحول كما يؤكد الشيخ تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين إلى مسجد معلق في الهواء، فضلاً عن محاصرته بالكتل الاستيطانية مثل مستوطنة (معاليه أدوميم) ومستوطنة (رأس العمود).
وبقيت الجولان السورية محتلة كذلك طوال الثلاثين عامًا ولم يحرر منها شبر واحد، بل توسعت «إسرائيل» في بناء مستوطنات في الجولان وأقامت مشاريع مائية وكهربائية على بحيرة طبرية، وفرضت حصارًا على علاقة الجولانيين بوطنهم الأم، واستمرت «إسرائيل» كذلك في احتلال مزارع شبعا رغم انسحابها من معظم أراضي الجنوب اللبناني عام 2000م.
ولا شك أن تطبيع العلاقات بين مصر و«إسرائيل» قد أضر بشدة بالتضامن العربي وبالوزن الاستراتيجي للأمة العربية، وأطاح أو أضعف من الدور الريادي لمصر في المنطقة العربية وتضاءل دورها السياسي كشقيقة كبرى للعديد من الدول العربية، بل إنها سمحت لدول صغيرة بمناطحة القاهرة في عديد من الملفات التي كانت تقليديًا حكرًا على الدبلوماسية المصرية.
ولعل الخلافات العديدة بين مصر والدول العربية والقيود التي فرضتها المعاهدة عليها قد أفسحت المجال للدولة العبرية لتحدي جميع القرارات الدولية والضرب جميع الجهود التي تبذل لتحقيق السلام في المنطقة عرض الحائط، وكان آخرها المبادرة العربية للسلام المعلنة من قبل ولي العهد السعودي حينذاك الأمير عبد الله والتي ردت عليها «إسرائيل» بإعادة احتلال مدن الضفة الغربية ومحاصرة مقر المقاطعة في رام الله انطلاقًا من إدراكها عدم وجود أي رادع عربي لتحديها لإرادة المجتمع الدولي.
وتجاوزت الخسائر التي تعرضت لها مصر ذلك فقد سمحت إقامة علاقات دبلوماسية بين مصر و«إسرائيل» بتبادل السفراء والقنصليات وفتح مصر الباب على مصراعيه أمام الصهاينة الذين عاثوا فسادًا في الأراضي المصرية إذ استغل دبلوماسيو «إسرائيل» الحصانة الخاصة بهم للإضرار بالاقتصاد المصري أيما إضرارًا عبر إغراق مصر بأغلب أنواع المخدرات والدولارات المزيفة, علاوة على تنشيط أعمال التجسس ضد مصر، وهي العمليات التي كشفت عن الكثير منها الأجهزة الأمنية المصرية.
وفرضت تداعيات هذه الاتفاقية على القاهرة قيودًا شديدة؛ حيث سمحت للكيان الصهيوني والأمريكان باختراق المجتمع المصري والتدخل في أغلب المؤسسات وعلى رأسها التعليم بفرض مناهج تسير في فلك العلمنة والتغريب وإبعاد الأجيال المصرية عن منظومتها القيمية العربية والإسلامية.
وامتدت الخسائر إلى قطاعات شديدة الأهمية في مصر وفي مقدمتها الزراعة؛ حيث خسرت مصر وبشكل نهائي سيطرتها على أسواق القطن الدولية، بل أجبرت في النهاية على استيراد أقطان رديئة واستمرت على حالها كأكبر مستورد للقمح وفقدت البذرة المصرية في مختلف المجالات جدارتها وأجبرت مصر على استيرادها من الخارج خصوصًا من الكيان الصهيوني والذي استغل الفرصة لإغراق مصر بالبذور الفاسدة والمبيدات السامة والمسؤولة بشكل أساسي وحسب تقارير دولية عن تصاعد أرقام المواطنين المصريين المصابين بالسرطان والالتهاب الكبدي الوبائي وبشكل وصل لما يقرب من 10 ملايين مواطن مصري.
وأدت الضغوط الدولية دورًا في إرغام مصر على تحويل العديد من قلاعها ذات البعد العسكري إلى مصانع لإنتاج الأدوات الكهربائية المنزلية، رغم أن هذه المصانع قد أدت دورًا في السابق في المجهود العسكري المصري لسنوات طويلة وأسهمت في تحقيق مصر للنصر العسكري الأبرز في تاريخها عام 1973م.
ووصلت الكارثة مداها عبر الاتفاق الأخير الذي وقعته مصر مع «إسرائيل» الذي حصلت بموجبه الدولة العبرية على الغاز الطبيعي المصري بأقل من 2.8 دولاراً لعدد ألف وحدة في وقت تبيعه إسبانيا بـ 26 دولار لكل ألف وحدة كأنه كتب على المصريين وفقًا لهذه الاتفاقية المشؤومة أن يمولوا الصناعات العسكرية «الإسرائيلية».
ورغم الثورة التي اندلعت في مصر احتجاجًا على هذه الجريمة وصدر حكم قضائي مصري بوقف التصدير إلا أن الحكومة المصرية لجأت لحيل عديدة لاستمرار هذه الجريمة وتقديم الثروة المصرية على طبق من ذهب للكيان الصهيوني.
ومن البديهي هنا التأكيد أن الدولة العبرية كانت المستفيد الأول من هذه الاتفاقية، وكذلك الإشارة إلى أن المكاسب المصرية من وراء هذه الاتفاقية كانت محدودة جدًا وتمثلت في تلقي مصر معونات أمريكية تجاوزت عشرات المليارات من الدولارات ذهبت أغلبها إلى مؤسسات وخبراء أمريكيين عملوا استشاريين في المشروعات الممولة أمريكيًا دون أن تنجح هذه المعونة في إقالة الاقتصاد المصرية من عثرته.
ويدعم هذا الطرح السفير أمين يسري مساعد وزير الخارجية المصري السابق بالتأكيد على أن هذه الاتفاقية كانت وبالاً على مصر من كافة الجوانب، فقد تراجع دور مصر الريادي في المنطقة، وتحولت إلى دولة تسير في الفلك الصهيوني الأمريكي مما سمح لدول صغيرة بمنازعة مصر هذا الدور، بل توجيه اتهامات لها بالتواطؤ مع «إسرائيل» خلال عدوانها الأخير على غزة.
وتابع السفير يسري بأن خسائر مصر من هذه الاتفاقية أكثر من مكاسبها بكثير، فقد فتحت هذه الاتفاقية أبواب مصر على مصراعيها لقوى معادية عملت بقوة على إضعافها عبر إغراقها بالمخدرات والأموال المزورة والبذور والأغذية الفاسدة فضلاً عن السعي لاختراق المجتمع المصري وإفساد الأجيال الناشئة وصبغها بالصبغة الغربية وإفقادها القدرة على الرغبة في مواجهة «إسرائيل» بأي أسلوب.
وانتقد يسري بشدة سماح الاتفاقية بتدخل أمريكا في شؤون التعليم وفرض سياسات اقتصادية واجتماعية وتعليمية على مصر وإفساد عديد من المجالات التنموية في مقدمتها الزراعة والصناعة، بل سماحها بتوريد الغاز الطبيعي برخص التراب وهي كلها تشكل جرائم في حق الشعب المصري.
وفي السياق نفسه يرى الدكتور حسن عبد الفضيل أستاذ الاقتصاد بجامعة عين شمس أن الجانب الاقتصادي في هذه الاتفاقية يعد كارثة على الجانب المصري، وظهرت أسوأ تجلياته في اتفاقيتي «الكويز» وتصدير الغاز الطبيعي المصري لـ «إسرائيل»، وهو ما فتح الباب أمام حالة شكوك كبيرة في أهداف المسؤولين المصريين الذين وقعوا هذه الاتفاقيات مع «إسرائيل»، بل صمموا على تنفيذها على الرغم من صدور أحكام قضائية تمنع هذا التصدير.
وتابع د. عبد الفضيل بأن «إسرائيل» كانت المستفيد الأول من هذه الاتفاقية في أغلب المجالات، على رأسها الاقتصاد، فقد سمحت لها الاتفاقية بالعمل على تعزيز قدراتها والتحول للاعب اقتصادي كبير مما يترجم بتحسن مستويات الدخل وتحقيق معدلات رفاهية للمواطن «الإسرائيلي» كان التفكير فيها قبل توقيع هذه الاتفاقية ضربًا من الخيال.
لاتوجد تعليقات