رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. حماد عبدالجليل البريدي 18 سبتمبر، 2022 0 تعليق

بشـريــة النبي صلى الله عليه وسلم والمسيح بين الإنجيل والقـرآن (5)

ما زال حديثنا موصولاً عن المقارنة التي نثبت من خلالها بشرية النبيين الكريمين: سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ونبي الله عيسى-عليهما أفضل الصلاة والسلام-؛ حيث ذكرنا أنهما بشران اختصهما الله -عز وجل- بالرسالة، وجعلهما من أولي العزم من الرسل، واليوم نتكلم عن شهادة المعاصرين للنبيين الكريمين -عليهما الصلاة والسلام.

الأدلة على بشرية النبي  صلى الله عليه وسلم

     من أهم الأدلة على بشرية النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يدَّعِ أحد ممن عاصره فيه الألوهية، بل كانوا يشهدون له بالنبوة، حتى الكفار منهم، كما قال الله -تعالى-: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام: 33)، وقَالَ أَبُو جَهْلٍ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّا لَا نُكَذِّبُكَ، وَلَكِنْ نُكَذِّبُ مَا جِئْتَ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}، وعَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمَدَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَقِيَ أَبَا جَهْلٍ فَصَافَحَهُ، قَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَلَا أَرَاكَ تُصَافِحُ هَذَا الصَّابِئَ؟! فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي أَعْلَمُ إِنَّهُ لَنَبِيٌّ، وَلَكِنْ مَتَى كُنَّا لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ تَبَعًا؟.

شهادة هرقل

     وكذلك شهادة هرقل له بالنبوة كما في حديث أَبي سُفْيَانَ بْن حَرْبٍ أَخْبَرَ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تجارًا بِالشَّأْمِ فِي المُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ، فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا، فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ: إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ. قال أبو سفيان: فَوَاللَّهِ لَوْلاَ الحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ. ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ، قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا القَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ، قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا، قَالَ: وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الكَلِمَةِ، قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قُلْتُ: الحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ، قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَقُولُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّدْقِ وَالعَفَافِ وَالصِّلَةِ. فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ: سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا القَوْلَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا القَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ: رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، قُلْتُ: فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ. وَسَأَلْتُكَ: أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ. وَسَأَلْتُكَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ. وَسَأَلْتُكَ: أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ القُلُوبَ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَغْدِرُ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لاَ تَغْدِرُ. وَسَأَلْتُكَ: بِمَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ.

اعتراف زعماء اليهود

     كما اعترف من عاصره من زعماء اليهود بصدق نبوته - صلى الله عليه وسلم -، وهذا ما تقصه أم المؤمنين صفية بِنْت حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ زعيم يهود بني قريظة، فتقول: كنت أحَبَّ ولد أبي إليه وإلى عمِّي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولدٍ لهما إلّا أخذاني دونه. قالت: فلما قَدِمَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، ونزل قُبَاء في بني عمرو بن عوفٍ، غدا عليه أبي حيي بن أخطب وعمِّي أبو ياسر بن أخطب، مُغَلّسَيْنِ قالت: فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس. قالت: فأتيا كالّين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى. قالت: فَهَشِشْتُ إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفتَ إليَّ واحدٌ منهما، مع ما بهما من الغمِّ. قالت: وسمعت عمِّي أبا ياسر وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو؟ قال: نعم والله، قال: أَتَعْرِفُهُ وَتُثْبِتُهُ؟ قال: نعم. قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيتُ.

     ولم يتعامل معه أحد من أصحابه -صلى الله عليه وسلم - على أنه إله يعبد من دون الله -عز وجل-، فلم يصلوا له، ولم يصوموا له، ولم يدَّعوا فيه صفة أو منزلة لم ينزله الله إياها، فهو عندهم عبد الله ورسوله.

عيسى عليه السلام

     ومما يدل أيضًا على بشرية المسيح -عليه السلام- أن معاصريه وحوارييه وحتى أعداءه لم يتعاملوا معه على أنه إله أو ابن الإله أو حتى ثالث ثلاثة، حتى والدته وأقرب الناس إليه، يذكر يوحنا «أن المسيح لما صلب ذهبت والدته لتذرف عليه الدمع» (يوحنا 19/25)، أفلم تكن تعلم أن ولدها هو الله أو ابنه، وأن الموت لا يضيره فلا تبكي عليه؟!

     ولما رأى رجلان المسيح بعد الصلب المزعوم على الصليب حزنا وقالا عن سبب حزنهما: «يسوع الناصري الذي كان إنسانا نبيًّا... كيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت وصلبوه ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل» (لوقا 24/19).

     فليس في قولهما حديث عن ناسوت مقتول، ولا عن لاهوت متجسّد نجا من الموت، إن غاية ما كانوا يرقبونه فيه أن يكون مخلص إسرائيل، أي: المسيح المنتظر الذي بشرت به الأنبياء، فإن «الإيمان الشائع بين اليهود كان يقتصر على أن المسيح يكون فقط إنسانًا مشهورًا وممتازًا في فضائله ووظيفته».

ويقول القس إبراهيم سعيد عن هذين التلميذين: «إلى الآن لم يؤمنا بلاهوته.. لكننا لا ننكر عليهما أنهما كانا مؤمنين بنبوته».

     ولما جاءته المرأة السامرية ورأت قدراته وأعاجيبه: «قالت له المرأة: يا سيدي أرى أنك نبي» (يوحنا 4/19)، وما زادت على ذلك، فما وبخها ولا صحح لها معتقدها.

     وكذا الجموع التي رأته في أورشليم وخرجت لاستقباله كانت تعتقد بشريته ونبوته: «فقالت الجموع: هذا يسوع النبي» (متى 21/45).

بل هذه الجموع وصفته بالنبي العظيم: «فأخذ الجميع الخوف ومجدوا الله قائلين: قد قام فينا نبي عظيم» (لوقا 7/16).

     وأيضًا عجب منه تلاميذه لما رأوا بعض معجزاته، ولو كانوا يرونه إلهًا لما كان في معجزاته أي عجب: «فقد مرّ يسوع -عليه السلام- بالشجرة وقد جاع، فقصدها، فلم يجد فيها سوى الورق. فقال: لا يخرج منك ثمرة إلى الأبد، فيبست الشجرة لوقتها، فتعجب التلاميذ قال لها: لا يكون منك ثمر بعد إلى الأبد، فيبست التينة في الحال. فلما رأى التلاميذ ذلك تعجبوا قائلين: كيف يبست التينة في الحال...» (متى 21/18-22). فدل عجبهم على أنهم كانوا لا يدركون شيئًا مما تعتقده النصارى اليوم من ألوهية المسيح، وإلا فإن تيبيس الإله للشجرة ليس فيه ما يدعو لأي عجب.

غاية ما اعتقده التلاميذ في المسيح

      إن غاية ما اعتقده التلاميذ في المسيح أنه المسيح النبي العظيم المنتظر، ولم يدر بخلدهم ألوهيته أو بنوته لله، يقول الأب متى المسكين: «التلاميذ وقف تفكيرهم عند اعتقادهم فيه أنه نبي، ولكن يعمل أعمالًا لم يعملها نبي.. رفع تقديرهم للمسيح عن ما هو أكثر فعلًا من نبي، ولكن ماذا يكون، فالتلاميذ جمعوا من الأدلة في حياة المسيح ما يؤكد لهم أنه المسيح.

     وفيما أحد الفريسيين يرقب المسيح متشككًا بنبوته تقدّمت إليه امرأة خاطئة باكية تمسح رجليه بشعرها، تقبلهما وتدهنهما بالطيب، «فلما رأى الفريسي الذي دعاه ذلك، تكلم في نفسه قائلًا: لو كان هذا نبيًا لعلم من هذه المرأة التي تلمسه؟ وما هي؟ إنها خاطئة» (لوقا 7/39). لقد استنكر في نفسه نبوة -لا ألوهية- هذا الذي يجهل حال الخاطئة، مما يؤكد أن دعواه -عليه السلام- بينهم إنما كانت النبوة فحسب، يقول الأب متى المسكين: «فالفريسي إذ رأى المسيح يتقبل من المرأة ما صنعته به أخذها شهادة ضد المسيح أنه ليس نبيًّا كما كان يذاع عنه».

     وهكذا كان جميع من عاصره يشهد له بالنبوة؛ مما يدل على أن فكرة ألوهية المسيح لا علاقة لها به ولا بأتباعه ولا بمن عاصره، بل هي من المخترعات اللاحقة لذلك العهد، وذلك يكفي لإعلان بطلانها.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك