رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. حماد عبدالجليل البريدي 5 يوليو، 2022 0 تعليق

بشـريــة النبي صلى الله عليه وسلم  والمسيح بين الإنجيل والقـرآن (2)

ما زال حديثنا موصولاً عن المقارنة التي نثبت من خلالها بشرية كلا النبيين سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ونبي الله عيسى-عليهما أفضل الصلاة والسلام-؛ حيث ذكرنا أنهما كونهما بشرين من البشر اختصهما الله -عز وجل- بالرسالة، وجعلهما من أولي العزم من الرسل، وذكرنا في الحلقة الماضية نبذة عن نسبهما ومولدهما، واليوم نكمل ما بدأناه.

ثانيًا: الصفات الخَلقية للنبي -  صلى الله عليه وسلم

      من الأدلة على بشرية النبي - صلى الله عليه وسلم - صفاتُه الخلقية، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - أبيض مستنيرا مائلا إلى الحمرة، واسع الجبين، شديد سواد العين مع سعتها، وقيل: أكحل طويل الأشفار، كث اللحية تملأ صدره، عظيم المنكبين، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير المتردّد، إذا تكلم رئي كأن نورًا يخرج من ثناياه، إذا مشى تقلع كأنما ينحطّ في صبب -أي: يمشي بقوة-، يتلألأ وجهه كالقمر ليلة البدر - صلى الله عليه وسلم -، حسن الصوت، سهل الخدين، ضليع الفم، سواء البطن والظهر، أشهر المنكبين والذراعين وأعالي الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، منهوس العقبين -أي: قليل لحم العقب-، بين كتفيه خاتم النبوة كزر الحجلة وكبيضة الحمامة، وكان إذا مشي كأنما تطوى له الأرض، ويجدون ذلك في لحاقه وهو غير مكترث، وكان يسدل شعره ثم فرقه، وكان يرجِّله، ويسرح لحيته، ويكتحل بالإثمد كل ليلة في كل عين ثلاثة أطرف عند النوم.

وصف أنس - رضي الله عنه

     وصفه أنس بن مالك - رضي الله عنه - فقال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَزْهَرَ اللَّوْنِ، كَأَنَّ عَرَقَهُ اللُّؤْلُؤُ، إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ، وَلَا مَسِسْتُ دِيبَاجَةً، وَلَا حَرِيرَةً أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَلَا شَمِمْتُ مِسْكَةً وَلَا عَنْبَرَةً أَطْيَبَ مِنْ رَائِحَةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -»، وكان عرقه - صلى الله عليه وسلم - أطيب من الطيب، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ عِنْدَنَا، فَعَرِقَ، وَجَاءَتْ أُمِّي بِقَارُورَةٍ، فَجَعَلَتْ تَسْلِتُ الْعَرَقَ فِيهَا، فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، مَا هَذَا الَّذِي تَصْنَعِينَ؟» قَالَتْ: هَذَا عَرَقُكَ نَجْعَلُهُ فِي طِيبِنَا، وَهُوَ مِنْ أَطْيَبِ الطِّيبِ.

وكان - صلى الله عليه وسلم - مثل القمر بل أجمل من القمر، سُئل البراء - رضي الله عنه -: أكان وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل السيف؟ قال: لا، بل مثل القمر.

عيسى عليه السلام

     من أدلة بشرية عيسى -عليه السلام- صفاته الخَلقية، فهو رجل مربوع القامة، ليس بالطويل ولا بالقصير، أحمر، جعد، عريض الصدر، سبط الشعر، كأنما خرج من ديماس، له لمة قد رجلها تملأ ما بين منكبيه، بهذا وصفه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في رحلة الإسراء والمعراج، فقال: «وَلَقِيتُ عِيسَى»، فَنَعَتَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «رَبْعَةٌ أَحْمَرُ، كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ» يَعْنِي الحَمَّامَ. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «رَأَيْتُ عِيسَى ومُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ، فَأَمَّا عِيسَى فَأَحْمَرُ جَعْدٌ عَرِيضُ الصَّدْرِ، وَأَمَّا مُوسَى فَآدَمُ جَسِيمٌ سَبْطٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ الزُّطِّ.

     وقال - صلى الله عليه وسلم -: «بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ أَطُوفُ بِالكَعْبَةِ فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ، سَبْطُ الشَّعَرِ، يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، يَنْطِفُ رَأْسُهُ مَاءً -أَوْ: يُهَرَاقُ رَأْسُهُ مَاءً-، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: ابْنُ مَرْيَمَ، فَذَهَبْتُ أَلْتَفِتُ، فَإِذَا رَجُلٌ أَحْمَرُ جَسِيمٌ، جَعْدُ الرَّأْسِ، أَعْوَرُ عَيْنِهِ اليُمْنَى، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا الدَّجَّالُ، وَأَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ»، قَالَ الزُّهْرِيُّ: رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ، هَلَكَ فِي الجَاهِلِيَّةِ. بل شبهه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعروة بن مسعود الثقفي، ففي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ، فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا، فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ»، قَالَ: «فَرَفَعَهُ اللهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ، وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي، فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ، جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَإِذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ -عليه السلام- قَائِمٌ يُصَلِّي، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ -عليه السلام- قَائِمٌ يُصَلِّي، أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ» يَعْنِي نَفْسَهُ، فهل يكون إلهًا من يشبه البشر؟!

ثالثًا: إقراره بأنه إنسان تأكيد النبي - صلى الله عليه وسلم - لإنسانيته

     فالنبي - صلى الله عليه وسلم - بشر تميز عن بني جنسه بالنبوة، وهذا ما بينه الله -عز وجل- في كتابه فقال -تعالى-: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (الكهف: 110)، وقال -تعالى-: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} (فصلت: 6)، فهل يكون إلهًا من يأمره ربه أن يقول للناس: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}؟!

     ومن أجل بشرية الرسول -عليه السلام- قامت المساجلات بين قومه وبينه؛ كما يحكي ‏القرآن مفنّدًا مطالب المشركين: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} (الإسراء: 90-94).‏

     وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤكد هذا المعنى، فعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ، فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ، فَقَالَ لَهُ: «هَوِّنْ عَلَيْكَ؛ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ».

إقرار عيسى عليه السلام بأنه إنسان

      أخبر الله -سبحانه- في القرآن أن عيسى -عليه السلام- عبد من عباد الله؛ فقال: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} (النساء: 172). وكان هذا هو أول ما تكلم به عيسى -عليه السلام- فقال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} (مريم: 30)، قال ابن كثير: «أَوَّلُ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ نَزَّهَ جَنَابَ رَبِّهِ -تعالى-، وَبَرَّأَ اللَّهَ عَنِ الْوَلَدِ، وَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ الْعُبُودِيَّةَ لِرَبِّهِ، فهو إنسان مخلوق خلقه الله -سبحانه وتعالى- كما خلق آدم من تراب، قال -تعالى-: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (آل عمران: 59).

      قال ابن كثير: فَإِنَّ اللَّهَ -تعالى- خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ، بَلْ {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، وَالَّذِي خَلَقَ آدَمَ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ عِيسَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَإِنْ جَازَ ادِّعَاءُ الْبُنُوَّةِ فِي عِيسَى بِكَوْنِهِ مَخْلُوقًا مِنْ غَيْرِ أَبٍ، فَجَوَازُ ذَلِكَ فِي آدَمَ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَمَعْلُومٌ بِالِاتِّفَاقِ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، فَدَعْوَاهَا فِي عِيسَى أَشَدُّ بُطْلَانًا وَأَظْهَرُ فَسَادًا. وَلَكِنَّ الرَّبَّ -عز وجل- أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ قُدْرَتَهُ لِخَلْقِهِ حِينَ خَلَق آدَمَ لَا مِنْ ذَكَرٍ وَلَا مِنْ أُنْثَى، وَخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى، وَخَلَقَ عِيسَى مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ، كَمَا خَلَقَ بَقِيَّةَ الْبَرِيَّةَ مَنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى.

تصريح الإنجيل بأنه إنسان

     وهذا الذي ذكره الله -عز وجل- في كتابه وعلى لسان عيسى -عليه السلام-، ومثله جاء في صريح الإنجيل أنه إنسان: «أنا إنسان، قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله» (يوحنا 8/39)، ويقول أيضًا مؤكدًا هذا المعنى: «متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون أني أنا هو» (يوحنا 8/28)، وجاء في قاموس الكتاب المقدس: «ويوجد في الأربعة الأناجيل ثمانية وسبعون مثلًا يستخدم فيها يسوع المسيح هذه العبارة (ابن الإنسان) عن نفسه، حتى حواريو عيسي كانوا ينظرون إليه على أنه إنسان، وهم أعلم الناس به وأقرب الناس إليه، فقد خاطبهم فقال: أتفهمون ما قد صنعت بكم؟ أنتم تدعونني معلمًا وسيدًا، وحسنًا تقولون لأني كذلك». (أعمال الرسل 11/22).

التعبير عن نفسه بابن الإنسان

     بل كان من عادته -عليه السلام- التعبير عن نفسه بابن الإنسان، ففي إنجيل متى: «جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب» (متى 11/19)، وفيه أيضًا: «كذلك ابن الإنسان سوف يتألم منهم…» (متى 17/12)، وفي إنجيل لوقا: «لأن ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس» (لوقا 9/56)، وفي إنجيل يوحنا قال: «ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه الله» (يوحنا 8/40)، وقد نسب إنجيل متى المسيح إلى داود بن إبراهيم -عليه السلام-، وقد مكث المسيح أكثر من ثلاثين عامًا لا يُدعى إلا بابن داود؛ لأن أمه من نسل داود، وبهذا وصفه تلاميذه الذين خالطوه.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك