رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الحضرمي أحمد الطلبه 23 أبريل، 2019 0 تعليق

براءة السلفية من الفرَقِ الغالية – فكّ الارتباط وإبطال دعوى الصِّلة بينها

لم يتوقَّف النَّيلُ من أهل السنة والجماعة منذ أن أطلَّت البدع برؤوسها في البلاد الإسلاميَّة؛ فلو سبرتَ أغوارَ التاريخ، ستجِد أنَّ كبارَ أئمَّة أهل السنة والجماعة قد اضطُهدوا وعُذِّبوا وسُجنوا على يد فِرقٍ كثيرة، ولا يمكن لهذا السيل الجارف أن يتوقَّف، ورغم ذلك ظلَّ مذهب أهل السنة والجماعة شامخًا عزيزًا منتشرًا بين الناس إلى يومنا هذا.

     وهذه الشبهات التي تثار في وجه أهل السنة والجماعة تثار أحيانا بوصفها مسائلَ علمية حقُّها البحثُ والحِجاج العلميّ، وتثارُ مرات لغرض التَّشنيع فحَسب، ومن ذلك ما يُشاعُ من إلصاقِ الفرق الغالية في التَّكفير بأهل السنة والجماعة، والادِّعاء بأن هذه الفرقَ ما هي إلا مُخرجات فكرِ أهل السنة والجماعة، وما هي إلا نبتَة نبتَت في أرضٍ سُنيَّة، ورَبَتْ في تربة سّنِّية، وتغذَّت على أفكار سُنِّيَّة، وحقَّقت مقاصدَ سنِّيّة! وهذا الجمعُ بين الطائفتين بيِّنٌ بُطلانه لدرجة أنهم يتكلَّفون الرَّبطَ بين الفرق الغالية وبين أهل السنة والجماعة لوجود تنافرٍ تامٍّ بين الطائفتين على مستوى التَّنظير والتطبيق! ومن هذا التكلُّف إثبات بعض الكُتَّاب نسبةَ الفرق الغالية إلى أهل السنة والجماعة وعدم نسبتها إلى الخوارج ببيان أوجُه الشَّبه بين الفِكرين، وادِّعاء أن الفِرقَ المتطرِّفة خارجة من عباءة السَّلفية؛ للشَّبه في بعض القضايا، وحتى نُلملم شتاتَ المَسألة ونعرف حقيقة الدعوى سنناقشها من خلال المسائل التَّالية:

الاتفاق في الوصف المميِّز

- المسألة الأولى: اتِّفاق الفِرَق الغَالية مع السَّلفية في الوصف المميِّز للفِرقة: هذه أولى المسائل التي يبنُون عليها موقِفهم من إلحاقِ الفرق المتطرِّفة بالسَّلفية، وهي ادِّعاؤُهم أنَّ الصفة التي عليها السَّلفية تنطبق على هذه الفرق الغالية، ولا تنطبق عليها صفة الخوارِج، وهذه الشُّبهة قائمةٌ على خطأ في فهم الصِّفة التي بها تُلحَق طائفة بأخرى؛ فإنَّهم أتَوا إلى أمورٍ تَشترك فيها السَّلفية مع هذه الفرق؛ فجعلوها دليلًا على صحَّة النِّسبة، ولم ينظُروا إلى الصِّفات الأخرى التي لم تشابهها فيها التي عليها مدارُ الانتساب أصلًا! وما يفعلونه يشبِه بالضَّبط لعبة الفُروق الخمسة، التي هي قائمةٌ على وجود شَبهٍ كبير بين صورتين وفروقٍ طفيفة يجِب استخراجها، لكن ماذا لو قال أحدُهم في هذه اللعبة: أوجد لي خمسة فروق بين السيارة والقط، هل سيبدو السُّؤال منطقيًّا؟ ولم لا؟ فهذه لها أربعُ عجلات وتلك لها أربعةُ أرجل، وهذه تسير وتلك تمشي، وهذه عين قائمة وتلك عينٌ قائمة، وهذه بإمكانِها أن تسرع وتلك بإمكانها أيضا أن تسرع، بل تأمَّل جيدًا، ألم تلاحظ أن مصابيح السيارة تشبه إلى حدٍّ كبير عيون القطط؟!

الأصل المميِّز للفرقة

لابد أن نعلم أن التَّشارك في بعض الأشياء لا يعني أن هذا فرعٌ لذاك، إذاً ما معيار إلحاق فرقةٍ بأُخرى؟

     المعيارُ في ذلك هو الاتِّفاقُ على الأصل المميِّز للفرقة، فإذا أردنا أن نبحث عن اتِّفاقٍ بين فرقةٍ وأخرى يجب أن نبحث عن الوصف المميِّز لكلِّ فرقة ونرى التَّوافق فيه، أما البحث عن موافقات أخرى غير الوصف المميز؛ فإنَّ لكل أحد أن يدعي توافق فرقة مع أخرى كما يشاء؛ فكلُّ الفرق يمكنُ البحثُ عن مشتركات بينها، ولاسيما وأنها كلّها تنتسبُ إلى الإسلام، بل ما من موجوديْن إلا وبينهما أمور مشتركةٌ كثيرة؛ فبعضهم يأتي إلى أمورٍ فرعيَّة لا يُعتمد عليها في نسبة فرقة إلى أخرى، وبها ينسب الفرق الغالية إلى السَّلفية، ويُبَرِّئُها من الخوارج! وبالفحص والتَّدقيق نجد أنَّهم أقربُ إلى الخوارج من أيّ فرقة أخرى، وإن كانوا قد خالفوهم في بعض المسائل، وإذا أردنا أن نعرف صحَّة هذه النسبة يجب أن نعرفَ الوصف المميِّز للخوارج.

الوصفَ المميّز للخَوارج

     كثيرٌ من الباحثين يَجعلون الوصفَ المميّز للخَوارج هو: تكفيرُ مرتكب الكبيرة، وهذا هو المعيار الذي وضَعه بعضُ الكتَّاب، وانطلقوا من هذا البناء إلى أن الفِرَق الغالية في التكفير والسَّلفية لا يكفِّرون بالكبائر، فهم في كفَّة والخوارج في كفةٍ أخرى، وفي الحقيقةِ البحثُ عن الوصف المميز للخوارج من أعسر القضايا في البحث العقدي؛ لأنَّ النصَّ المؤسِّس للفكر الخارجي غير موجود، وفي هذا يقولُ ابن النَّديم: «قال محمد بن إسحاق: الرؤساء من هؤلاء القوم كثير، وليس جميعُهم صنَّف الكتب، ولعلّ من لا نعرف له كتابًا قد صنف ولم يصِل إلينا؛ لأن كتبهم مستورة محفوظة». ويشير ابن تيمية -رحمه الله- إلى هذا المعنى فيقول: «و أقوال الخوارج إنما عرفناها من نقل الناس عنهم، لم نقف لهم على كتاب مصنَّف»، وهذا يسبِّب إرباكًا كبيرًا للدارسين والباحثين عن أصل الفكرة؛ لكن من خلال مجموع مواقفهم يمكنُ استنباط الوصف المميِّز لهم، وهما وصفان:

- الأوّل: أنَّهم يكفِّرون بما ليس بمكفِّر، وهذا واضحٌ في قضية تحكيم الرجال؛ فإنهم كفَّروا بهذا الفعل الذي لم يأت نصٌّ شرعيّ على تكفيره، وتلاحظ أن هذا الفعل لم يكن من الكبائر، بل لم يُعدَّ ذنبًا قبل أن يعدُّوه هم!

- الثاني: أنَّهم يبنون على هذا التكفير استباحة دماء المسلمين، وقد قاتلوا الصحابيَّ الجليل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ومن معه أوَّل ما قاتلوا.

أصل قول الخوارج

     وقد أشار إلى هذين الوصفين ابن تيمية -رحمه الله- فقال: «فأصل قول الخوارج أنَّهم يكفِّرون بالذنب، ويعتقدون ذنبًا ما ليس بذنب، ويرَون اتِّباع الكتاب دون السنة التي تخالف ظاهر الكتاب وإن كانت متواترة، ويكفرون من خالفهم، ويستحلون منه لارتداده عندهم ما لا يستحلُّونه من الكافر الأصلي، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم: «يقتُلون أهلَ الإسلام، ويدَعون أهلَ الأوثان»؛ ولهذا كفَّروا عثمان وعليًّا وشيعتَهما؛ وكفَّروا أهل صِفِّين -الطائفتين- في نحو ذلك من المقالات الخبيثة»؛ فالمشكلة ليست فقط في التكفير بالكبائر، وإنما في التكفير بالذنب، وفي جعل ما ليس بذنب ذنبًا. وفي نصٍّ أوضَح من هذا يقول ابن تيمية -رحمه الله-: «إنهم يكفِّرون بالذنوب والسيِّئات، ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلالُ دماء المسلمين وأموالهم، وأنَّ دار الإسلام دارُ حرب، ودارَهم هي دارُ الإيمان».

     فإن كان هذا هو الوصف المميز لا يصح لنا حين البحث عن نسبة فرقة إلى أخرى أن نغفل عن هذا الوصف، وهو ما لم يتطرَّق له من ينفي نسبة الفرق الغالية في التكفير إلى الخوارج وينسبهم إلى السَّلفية؛ فكان هؤلاء يدورون على أمورٍ أخرى ليست وصفًا مميّزا، كالقولِ بخلق القرآن حين ادَّعوا أن الخوارج تقول به ولا تقول به الفرق المتطرِّفة؛ فإنَّ هذا ليس وصفًا خاصًّا بالخوارج، وكان الواجب قبل نسبة فرقةٍ إلى أخرى تحقيق القول في الوصف المميز، ثم يمكن أن نختلف فيما بعد في تحقّق هذا الوصف في الفرقة الثانية أو عدم تحقّقه.

الاتفاق في مصادر التلقي

- المسألة الثانية: اتفاق الفرق الغالية مع السلفية في مصادر التلقي وطرائق فهمها: وهذه مسألةٌ اتَّكأ عليها بعض الكتاب أيضًا؛ فادَّعوا أن الفرق الغالية قد اتَّفقت مع السلفية في المصادر، وهذه طريقة غريبةٌ في الاستدلال؛ فإن الأمة كلها قد اتَّفقت على مصادر التشريع الأصلية كالقرآن والسنة، فكيف تكون هذه الطائفة منتسبة إلى الطائفة الأخرى لاشتراكِها معها في أمرٍ تشترك فيه الأمة كلها؟!

     فالسُّنة ليست مصدرًا تشريعيًّا خاصًا بالسلفية -وإن كانوا قد تميَّزوا في شمولية الاستدلال بها، والاشتغال بها- لكن لا تنكرها أيضًا الطوائف الأخرى، ومن الممكن أن يأتي أحدٌ ويقول: إن الفرق الغالية تمثِّل الإسلام؛ لأنها تأخذ بالقرآن الكريم وتستدلُّ به، وهذا عين ما فعله الخوارج حين فهموا القرآن كما أرادوا، ثم دعَوُا الناس إلى تحكيمه حسب فهمهم!

طريقة الفَهم

      وأما طريقة الفَهم فمن النَّاس أيضًا من يقول: إن ممَّا يدل على بُعد هذه الفِرق عن الخوارج وقربها من السلفية: أن السلفيةَ تفهم القرآن فهمًا حرفيًّا، ولا أدري كيف أن هذا يجعل الفرق الغالية أقرب إلى السلفية من الخوارج؛ فإنَّ الخوارج قد تمسَّكوا بالنصّ الظاهر والفهم الحَرفي للقرآن دون أن ينظروا إلى الآيات الأخرى؛ فهُم قد تمسَّكوا بأن لا حكمَ إلا لله؛ فقالوا لعلي - رضي الله عنه -: كيفَ تحكِّم الرجال في كتاب الله؟! وقالوا له: إنَّا حكمنا؛ فلما حكمنا أثِمنا، وكنا بذلك كافرين وقد تُبنا؛ فإن تبتَ فنحن معك ومِنك، وإن أبيتَ فإنا مُنابِذوك على سواء؛ وبذلك كفَّروا الصحابة الكرام، فهل هناك جمودٌ أشدُّ من هذا؟!

وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم

     وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى تلك الصفة فيهم حينَ قال: «يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم»، وقال في حديثٍ آخر: «يحسبون أنَّه لهم، وهو عليهم». وإلى هذ أشار علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كما روى عبيد الله بن أبي رافع -مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الحرورية لما خرجت وهو مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قالوا: لا حكمَ إلا لله، قال علي: كلمةُ حقٍّ أريدَ بها باطل، إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصَف ناسًا، إنِّي لأعرف صفتَهم في هؤلاء: «يقولون الحق بألسنتهم لا يجوز هذا منهُم» وأشار إلى حلقه.

- وخلاصَةُ الأمر: أنَّ الفرق الغالية لم تُوافق السلفية في مصدرٍ تميَّزوا به، ولم توافقهُم حتى في طريقة فهمهم للنَّص؛ فمحاولة الربط بين الطائفتين محاولةٌ سقيمة لا تستقيم معَ الإنصاف والعدل.

الاتفاق في التطبيق

- المسألة الثالثة: اتِّفاق الفِرق الغالية في التَّكفير مع السَّلفية في التَّطبيق: وهذا أيضًا مما يُدندن به كثيرٌ من المشنِّعين على السلفية؛ فإنَّهم يرون أن الفرق الغالية في التَّكفير ما هي إلا إفرازات طبيعية لتنظيراتِ السلفية، والفرق المتطرّفة نفسها تنتسب إلى السلفية؛ فيظنُّ الناس أنهم يقِفون على أرض واحدةٍ، ويشربون من معينٍ واحد، ولفهم هذه القضية ومناقشتها يجب التأكيد على أصلين مهمين:

الأصل الأول

     أنَّ الانتساب لا يعني صحَّة أخذِ المنتسب بأصولِ المنتسب إليه، وبناءً عليه فإنه لا يُنسب إلى طائفة أو مذهب أخطاءُ المنتسبين إليه، وإلا لاحتجنا إلى إبطال الأديان كلها ومنها الإسلام؛ فإنَّ من المسلمين من يطبقه تطبيقًا خطأ، ولا يمكن أن نحمِّل الإسلامَ هذه الأخطاء، وهذا نفسه يحصل من أتباع أي مذهبٍ أو طائفة أو فكر.

الأصل الثاني

     التطبيق لا يبطل التأصيل، ومعناه: أن بعض الناس قد يكونون على عقيدةٍ معينة، ويتبعون أصولًا معينة، ثم يخطئون في بعض التطبيقات، والطريقة المثلى في التعامل معهم أن نبيِّن خطأهم في التَّطبيق دون أن نرجع ذلك إلى إبطالِ الأصل؛ فالخطأ في التَّطبيق لا يعني بطلانَ الأصل؛ فقد يقول قائل: إن الأغاني حرام، ثمَّ يسمعها، وسماعه لها لا يعني إبطال أصله، وإنما يعني وقوعَ الخطأ منه.

     ولهذا الأصل حضورٌ في القواعد الفقهية، منها القاعدة التي تقول: «من كان القولُ قولَه في أصل الشيء كان القولُ قولَه في صفته»، وبعموم هذه القاعدة نقول: إنَّ التَّأصيل الذي يقدّمه مؤسس أيِّ دعوة أو مذهب هو الحاكم لمذهبه ودعوتِه؛ فكما أن قوله هو المعتبر في أصل الدعوة؛ فكذلك صفة هذا المذهب وتطبيقه؛ فلا تُنسب إليه الصفة التي يطبقها المنتسِبون ويخطئون فيها.

أكبر الأخطاء

ومن أكبر الأخطاء التي يرتكبها من يشنِّع على السلفية أنهم يأتون إلى فرق وطوائف تنتسب إلى السلفية وترتكب باسمها أشنعَ الجرائم؛ فيلحقونها بالسلفية وهي بريئة منها في الجانب التأصيلي، وكذلك في الجانب التطبيقي.

     وأخيرًا، أصول الفرق الغالية لا تتَّفق مع أصول أهل السنة والجماعة، وكذلك تطبيقاتها، أمَّا الأصول العامة كالكتاب والسنة؛ فهذه تشترك فيها الأمة؛ فلا يصحُّ ادّعاء صحّة نسبتها إلى أهل السنة من هذه الجِهة، وبراءة أهل السنة من الفرق الغالية كبراءة الذئب من دم يوسف -عليه السلام.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك