بدع القبور أنواعها وأحكامها (3) صفة البدع داخل القبر
جاءت شريعة الإسلام بالتوحيد الخالص من شوائب الشرك، وسدت كل ذريعة ووسيلة تفضي إليه، ومن ذلك البدع المستحدثة في القبور من البناء عليها واتخاذها مساجد، ولقد حرص النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلى تحذير المسلمين من هذه البدع الجاهليَّةِ، مِثل البِناءِ عَلى القُبورِ ورَفعِها؛ فعن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - أنه قال: «نَهَى رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُجَصَّصَ القَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عليه، وَأَنْ يُبْنَى عليه»، من هنا كان استعراضنا لهذا البحث للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي وهو بعنوان: (بدع القبور أنواعها وأحكامها)؛ لبيان تلك البدع التي انتشرت بين المسلمين، وليست من الإسلام في شيء.
وكنا قد تحدثنا في الحلقتين الماضيتين عن تعريف القبر وصفته الشرعية، وعن البدع والمخالفات المنتشرة خارج القبر، واليوم نتحدث عن البدع داخل القبر.
(1) أخذ حفنة من تراب
القبور وحثوها على الكفن
من الأمور المنكرة التي فشت بين الناس الكتابة على كفن الميت رجاء أن يغفر له؛ حيث يوصي بعضهم أقاربه أن يذكروا اسم الله على كفنه، ويكتب على جبهته أو على كفنه بسم الله الرحمن الرحيم، وحجتهم التي يعتمدون عليها، وأصولهم التي يعتدون بها قصص ورؤى فيجعلونها أصولاً، ومن ذلك حكاية أن رجلاً أوصى أن يكتب في جبهته وصدره بسم الله الرحمن الرحيم ففعل، ثم رؤي في المنام فسئل: فقال: لما وضعت في القبر، جاءتني ملائكة العذاب، فلما رأوا مكتوبا على جبهتي بسم الله الرحمن الرحيم» قالوا: أمنـت مـن عذاب الله.
كتابة العهد على الكفن
ومن صور هذا: ما يسمى كتابة العهد على الكفن وصيغته هو «لا إله إلا الله والله أكبر لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»، وقيل: إنه «اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم إني أعهد إليك في هذه الدنيا أني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمداً عبدك ورسولك، فلا تكلني إلى نفسي، تقربني من الشر وتبعدني من الخير، وأنا لا أثق إلا برحمتك، فاجعل لي عهداً عندك توفنيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد». وقد نص ابن الصلاح على عدم جواز أن يكتب على الكفن (يس) والكهف، ونحوهما، خوفاً من صديد الميت».
كتابة الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية
وكتابة الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية على جسد الميت أو كفنه، نص جماعة من علماء السلف -رحمهم الله عند كلامهم عن الآداب الخاصة بالقرآن الكريم- على كراهية كتابة القرآن الكريم على الجدران، وعلى الثياب على سبيل الإطلاق، قال البغوي -رحمه الله-: «ويكره تنقيش الجدار، والخشب، والثياب بالقرآن وبذكر الله -سبحانه وتعالى-».
الانتفاع بالقرآن
فمن انتفع بالقرآن فيما أنزل من أجله، فهو على بينة من ربه وهدى وبصيرة، ومن كتبه على الجدران أو على خرق تعلق عليها ونحو ذلك زينة أو حرزاً وصيانة للسكان والأثاث وسائر المتاع، فقد انحرف بكتاب الله أو بآية أو بسورة منـه عـن جادة الهدى، وحاد عن الطريق السوي والصراط المستقيم، وابتدع في الدين ما لم يأذن به الله ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - قولاً أو عملاً، ولم يعمل به الخلفاء الراشدون، وسائر الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين - ولا أئمة الهدى في القرون الثلاثة التي شهد لها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها خير القرون، ومع ذلك فقد عرض آيات القرآن أو سوره للإهانة عند الانتقال من بيته إلى مكان آخر بطرح هذه الخرق في الأثاث المتراكم، وكذا الحال عند بلاها وطرحها هنا وهنا ما لا ينبغي، وجدير بالمسلم أن يرعـى القـرآن وآياته، والمحافظة على حرمته، ولا يعرضه لما قد يكون فيه امتهان لــه.
من البدع الحادثة التي لا تجوز
وبهذا يتبين لنا أن كتابة الآيات القرآنية على الكفن أو على جسد الميت، من البدع الحادثة التي لا يجوز فعلها، ويحرم اقترافها، كذلك من البدع أخذ حفنة من تراب القبر، وقراءة بعض آيات القرآن عليها، ومن ثم نثرها على كفن الميت لكي لا يعذب في قبره، وهذا لا أصل له؛ فلا يقي من عذاب الله إلا الأعمال الصالحة برحمة أرحم الراحمين، وممن نص على بدعية هذا الفعل الشيخ عبد العزيز ابن باز - رحمه الله -؛ حيث قال: «هذا شيء لا أصل له بل هو بدعة منكرة لا يجوز فعلها، ولا فائدة منها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرع ذلك لأمته، وإنما المشروع أن يُغسل المسلم إذا مات، ويكفن ويُصلى عليه ثم يدفن في مقابر المسلمين، ويشرع لمن حضر الدفن أن يدعو له - بعد الفراغ من الدفن - بالمغفرة والثبات على الحق، كما كان النبي يفعل ذلك، ويأمر به وبالله التوفيق».
ولو كانت كتابة الآيات تقي من عذاب القبر، لأرشد إلى ذلك خير البشر، ولفعل أصحابه ذلك من بعده، ولو كان فيه نفع في هذا الموضع، لسبقونا إليه؛ فنفع قراءة القرآن وذكر الله يحصل في زمن الحياة، ويحصل الأجر بعد الممات.
(2) وضع المصاحف وغيرها داخل القبر بقصد التبرك
- أولاً: لابد أن يعلم المسلم أنَّ الخير كله بيد الله: قال الله -تعالى-: {قُلْ اللَّهُمَّ مَلِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: أنت المتصرف في خلقك، الفعال لما تريد، كما ردّ -تعالى- على من تحكم عليه في قوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}، أي: نحن نتصرف في خلقنا كما نريد بلا ممانع ولا مدافع، ولنا الحكمة والحجة في ذلك»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله -تعالى- يقول: يا آدم، فيقول لبيك وسعديك، والخير في يديك».
ومن هنا يتبين لنا أن الخير كله في يد الله -سبحانه وتعالى- والبركة كلها من عند الله -تعالى-، وهو المبارك -جل وعلا-، فلا يجوز أن ينسب لشيء بركة، إلا إذا جاء الدليل بذلك، كما أن الشيء قد يكون مباركاً في موطن، ولا يكون في موطن آخر، كالدعاء على صعيد عرفات، مبارك في زمنه، وأما في غير زمنه فلا خصوصية في صعيد عرفات، قال ابن القيم - رحمه الله -: «كل كمال وخير في الموجودات، فهو من خير الله -تعالى- وكماله في نفسه، وهي تُستمد منه، وهو لا يستمد منها، وهي فقيرة إليه، وهو غني عنها، كل منها يسأله كماله ثم قال: «له كل كمال، ومنه كل خير له الحمد كله، وله الثناء كله وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله تبارك اسمه، وتباركت أوصافه وتباركت أفعاله وتباركت ذاته، فالبركة كلها له، ومنه لا يتعاظم خير سُئله، ولا تنقص خزائنه على كثرة عطائه وبذله».
الله -تعالى- اختص بعض
خلقه بما شاء من الفضل
- ثانياً: لابد أن نعلم أن الله اختص بعض خلقه بما شاء من الفضل والبركة، وإذا كانت البركة كلها لله -تعالى-، ومنه فهو المبارك، ومن ألقى عليه بركته فهو المبارك، ولهذا كان كتابه الذي أنزله مباركًا ورسوله مباركًا، وبيته مباركًا، والأزمنة والأمكنة التي شرفها واختصها مباركة، وليلة القدر مباركـة ومـا حول المسجد الأقصى مباركًا، وأرض الشام وصفها بالبركة في أربعة مواضع من كتابه أو خمسة، فهو المتبارك في ذاته الذي يبارك فيمن شاء من خلقه وعليه، فيصير بذلك مباركًا.
التبرك في أصله مشروع في الإسلام
والبركة هي ثبوت الخير الإلهي في الشيء، قال -تعالى-: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}، فسمي بذلك لثبوت الخير فيه، ثبوت الماء بالبركة والمبارك ما فيه ذلك الخير؛ لذا قال ابن جرير في تفسير تلك الآية: «أي: التي جعلنـا فيهـا الخير ثابتًا دائمـًا لأهلها»، فالتبرك هو طلب البركة، والتبرك بالشيء طلب البركة بواسطته، فالتبرك في أصله مشروع في الإسلام، ولكنه ليس مشروعًا على الإطلاق، فهناك تبرك مشروع، وهناك تبرك محرم ممنوع، ولا يشك المسلم بأن القرآن العظيم مبارك، وصفه الله بذلك في أربعة مواضع: قال -تعالى-: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، وقال -تعالى-: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}، وقال -تعالى-: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ}، وقال -تعالى-: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}، فالقرآن الكريم جعله الله مباركاً، لكثرة خيره ومنافعه لاشتماله على منافع الدنيا والآخرة، وعلوم الأولين والآخرين.
فهذه الآيات كلها بينت بركة القرآن وما فيه من خير، ولكن لا يجوز أن يوضع القرآن مع الميت في قبره من أجل، بركته بحجة تثبيته وتطمينه؛ لأن هذا استخدام له في غير موضعه، وإهانة له؛ فبركة القرآن تعرف من خلال منهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسيرته، وسيرة السلف الصالح، وكل أمر لم يأت به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فـهـو مردود على صاحبه، قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد».
حكم كتابة القرآن وتعليقه
أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن حكم كتابة القرآن وتعليقه، وما شابه ذلك بجعله حرزاً أو غيره، فقالت: «أولاً- أنزل الله -تعالى- القرآن موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين، وليكون حجةً على الناس ونوراً وبصيرة لمن فتح قلبه له، يتلوه ويتعبد به، ويتدبره، ويتعلم منه أحكام العقائد والعبادات والمعاملات ويعتصم به في كل أحواله، ولم ينزل ليعلق على الجدران زينة لها، ولا ليجعل حروزًا وتمائم تعلق في البيوت أو المحلات التجارية ونحوها، صيانة وحفظاً لها من الحريق واللصوص، وما أشبه ذلك مما يعتقده بعض العامة، ولا سيما المبتدعة وما أكثرهم!
من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان
وجه سؤال للجنة الدائمة للبحوث العلمية عن حكم الدين فيمن يضعون في القبر مع الميت كتابًا اسمه (الدوشان) أو (القدوة)، ويقول كاتبو هذا الكتاب: إنه يثبت الميت في الجواب عن الأسئلة، فأجابت اللجنة قائلة: لا يجوز أن يوضع مع الميت كتاب لغرض تثبيته عند السؤال من الملكين أو لأي غرض كان؛ لأن التثبيت من الله -جل وعلا-، كما قال -تعالى-: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}؛ ولأن هذا بدعة، وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد».
لاتوجد تعليقات