بدع القبور أنواعها وأحكامها (1) تعريف القبر وصفته الشرعية
جاءت شريعة الإسلام بالتوحيد الخالص من شوائب الشرك، وسدت كل ذريعة ووسيلة تفضي إليه، ومن الذرائع المفضية إلى الشرك البدع المستحدثة في القبور من البناء عليها واتخاذها مساجد، فعن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - أنه قال: «نَهَى رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُجَصَّصَ القَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عليه، وَأَنْ يُبْنَى عليه»، من هذا الحديث نجد أنَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كان أكثر النَّاسِ حِرصًا عَلى إِزالةِ آثارِ الجاهليَّةِ، مِثل البِناءِ عَلى القُبورِ ورَفعِها؛ لِمَا فِيها مِن إِضاعةِ المالِ والتَّفاخُرِ، وغيرِ ذلكَ مِمَّا لا يَليقُ بالدَّارِ الآخرَةِ، وَلا يُناسِبُ حالَ الموتِ والبِلا، وكَذلك كانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - حَريصًا عَلى إِرشادِ المُسلمينَ لِمَا فيهِ إظهارُ تَكريمِ بَعضِهم لبَعضٍ في المَحيا وبعْدَ المَماتِ، من هنا كان استعراضنا لبعض أبواب هذا البحث الذي بعنوان: (بدع القبور أنواعها وأحكامها) للشيخ صالح العصيمي، نلخص بعضًا من تلك البدع التي انتشرت بين المسلمين، وليست من الإسلام في شيء.
تعريف القبر
القبر حفرة في الأرض، يوارى فيها الميت، والقبر أصل صحيح، يدل على غموص وتطامن ، فهو مدفن الإنسان، وجمعه قبور وموضعها: المقبرة: بفتح الباء وضمها، قال الفراء أي: جعل له قبراً يوارى فيه إكراماً، ولم يجعله مما يلقى على الأرض تأكله الطير، وورد القبر في السنة لقوله - صلى الله عليه وسلم - «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر..» الحديث، وقد وردت لفظة القبر في السنة فيما لا يحصى؛ ورد بعضها في هذه الرسالة، والقبر في لغة العرب له معان متعددة من أشهرها الضريح، ومنها ومنها الجدث، قال -تعالى-: {خُشَعًا أَبْصَرُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادُ منتشر} والقبر له في لغة العرب معان كثيرة أعرضت عنها خشية الإطالة.
الحكمة من الدفن
الله -جل وعلا- لا يشرع لعباده إلا ما فيه حكمة، لأنه - جل وعلا - منزّه عن العبث، والحكمة من الدفن واضحة وظاهرة لا تحتاج إلى تكلف أو تشدد أو تعنت، ومن الحكم الجليّة التي شهدت لها الأدلة الشرعية:
1- ستر الميت: قال -تعالى-: {فَبَعَتَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءَةَ أَخِيهِ}، والسوءة هنا: إما العورة، وإما جسد الميت؛ لأن الحي إذا رآه على هذه الصورة ساءه المنظر وأوحشه.
2- تكريم الميت وصيانة حرمته؛ لأن تركه بدون دفن فيـه هتك لحرمته، وإساءة له.
3- حتى لا يؤذى الأحياء بجيفته؛ لأنه إذا تُرك على هيئته التي مات عليها، تأدّى الناس من رائحته.
ولذا أجمع العلماء على وجوب دفن أموات المسلمين، كما حكاه ابن المنذر؛ حيث قال: «لم يختلف أحفظ عنهم من أهل العلم أن دفن الموتى واجب ولازم على الناس لا يسعهم ترك ذلك عند الإمكان ووجود السبيل إليه، ومن قام به سقط فرض ذلك عن سائر المسلمين».
وقال النووي -رحمه الله-: «أما الأحكام ففيه مسائل، أحدها: دفن الميت فرض كفاية بالإجماع، قد عُلم أن فرض الكفاية إذا تعطل أثم به كل من دخل في ذلك الفرض دون غيرهم»، ولقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - الأمر في ذلك، فيما رواه أبو سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اذهبوا فادفنوا صاحبكم»، والأحاديث في ذلك كثيرة؛ لذا شرع الله دفن الموتى، فأصبح من سنن المسلمين بعد أن ضلت عنه كثير من الأمم؛ فبعض الأمم البائدة في شرق الجزيرة كانوا يضعون أمواتهم في الفخار، وبعضهم يربطون موتاهم على هيئة القرفصاء، ويُجلسونهم في غرف مبنية على هيئة القباب وبعضهم يستعمل التابوت ومن الشعوب الضالة من يحرق جثث الموتى بالنار، وفي بعض الدول الغربية أفران خاصة لحرق جثث الموتى، ولذا فلا عجب أن يتميز الإسلام عن غيره في أسلوب الدفن.
الصفة الشرعية للدفن
(1) أن يُعمّق ويوسع
وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «احفروا وأوسعوا، واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر»، ولذا أوصى عمر رضي الله عنه أن يعمّق القبر قدر قامة وبسطة، وأن يوسع من قبل رجليه ورأسه، والمراد بقوله: (قامة وبسطة): أن يقف فيه رجل معتدل القامة ويرفع يديه إلى فوق رأسه ما أمكنه، وقال النووي: وقدَّر أصحابنا القامة والبسطة بأربعة أذرع ونصف، هذا هو المشهور في قدرهما، وبه قطع الجمهور، وذهب الحنابلة إلى أن التعميق ليس لـه حد؛ لأن الأحاديث لم تحدد مقدار العمق، وهناك من حددها بثلاثة أذرع ونصف، وهناك من حددها بقدر نصف القامة، وعلّة من حدّدوها؛ أن في ذلك صيانة للميت، وألا ينبشه سبع ولا تظهر رائحته، وأن يصعب نبشه على من يريد سرقة كفنه، والذي يظهر -والله أعلم- عدم تحديده بمقدار معين، ولأن في التحديد مشقة ظاهرة وتحكم بلا دليل قال مالك - رحمه الله -: «لم يبلغني في عمق قبر الميت شيء موقوف عليه، وأحبُّ إلي ألا يكون عميقة جدا، ولا قريبة من أعلى الأرض جدا». وأما ما ورد عن عمر أنه أوصى أن يعمق قبره قامة وبسطة، فهو ضعيف. كما مر معنا فلا يصح الاحتجاج به، والله أعلم.
(2) توسيع القبر من قبل الرأس والرجلين
ويستحب أن يوسع القبر من قبل الرأس والرجلين؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - لحافر القبر: «أوسع من قبل رجليه، أوسع من قبل رأسه».
(3) اللحد والشق
واللحد هو أن يحفر في أرض القبر مما يلي القبلة مكانا يوضع فيه الميت وقيل: أن يحفر في حائط من أسفله إلى ناحية القبلة قدر ما يوضع الميت فيه ويستره. هذا معناه في الاصطلاح، وأما الشق بفتح الشين فهو أن يحفر إلى أسفل كالنهر، هذا هو معنى اللحد والشق، أما ما ورد فيهما من السنة، فالأحاديث كثيرة، منها: ما ورد عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أنه قال في مرضه الذي هلك فيه: «الحدوني لحداً، وانصبوا علي اللبن نصباً، كما صُنع برسول الله - صلى الله عليه وسلم ، واللحد أفضل من الشق؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «اللّحد لنا والشق لغيرنا»، ولما ورد عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: «إذا جعلتموني في اللحد، فأفضوا بخدي إلى الأرض». قال أحمد: «ولا أحب الشق»، ولأن الله - جل وعلا - لا يختار لنبيه إلا الأفضل والأكمل.
(4) نصب الّلبن وتسويته على اللحد
وبعد أن يوضع الميت في قبره، ويوضع عليه اللبن، قال في المغني: «وإن جعل مكان اللبن قصباً فحسن، وكان أبو عبدالله يميل إلى اللبن ويختاره على القصب، ثم ترك ذلك، ومال إلى استحباب القصب، وأما الخشب فكرهه على كل حال، ورخص فيه عند الضرورة إذا لم يوجد غيره، وأكثر الروايات عن أبي عبد الله استحباب اللبن وتقديمه على القصب؛ لقول سعد: «انصبوا علي اللبن نصباً كما صنع برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال حنبل: قلت لأبي عبدالله: «فإن لم يكن لبن؟ قال: ينصب عليه القصب والحشيش وما أمكن من ذلك، ثم يهال عليه التراب».
وقال النووي - رحمه الله -: «والسنة أن ينصب اللبن على المنفتح من اللحد؛ بحيث يسد جميع المنفتح، ويسد الفرج بقطع اللبن ونحوه، ويسد الفرج اللطاف بحشيش أو نحوه، وقال جماعة من أصحابنا: أو بطين، والله أعلم».
وذلك لحديث سعد المتقدم وغيره من الأحاديث التي أعرضت عنها خشية الإطالة.
كذلك، لا بأس من استخدام (الإذخر)، وذلك لما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «حرّم الله مكة فلم تحل لأحد قبلي، ولا أحد بعدي، أُحلّت لي ساعة من نهار، لا يُختلى خلاها، ولا يُعْضد شجرها، ولا يُنفّر صيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا مُعَرِّف، فقال العباس - رضي الله عنه- الإِذْخِر، لصاغتنا، وقبورنا؟ فقال: «إلا الإذخر».
(5) تسنيم القبر وتسطيحه
وعدم الزيادة على ترابه
وبعد الفراغ من وضع اللبن، يُشرع بالدفن، ويُشرع ألا يزاد على تراب القبر؛ لما رواه جابر، قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبنى على القبر أو يزاد عليه». قال الشافعي: «أحب ألا يُزاد في القبر تراب غيره، لأنه ارتفع جدا». وقال أحمد: لا يزاد على القبر من تراب غيره إلا أن يستوي بالأرض فلا يعرف فكأنه رخص بذلك».
والتسنيم أفضل؛ لأن الآثار فيما يظهر أنها لا تضاد بينها، قال ابن القيم -رحمه الله-: «وهذه الآثار لا تضاد بينها، والأمر بتسوية القبور إنما هي تسويتها بالأرض، وألا ترتفع مشرفة عالية، وهذا لا يناقض تسنيمها شيئاً يسيراً عن الأرض، ولو قدر تعارضها فحديث سفيان بن دينار التمار أصح من حديث القاسم»، قال المعلمي -رحمه الله-: «إن الهيئة المشروعة التسنيم، والظاهر أن تلك الحال هي التي وضعت عليها القبور؛ لأنه لم يثبت أنها كانت مسطّحة».
(6) رفع القبر شبراً
ويستحب رفع القبر قدر شبر؛ لحديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُلحد ، ونُصب عليه اللبن نصبا ، ورفع قبره من الأرض نحوا من شبر.
(7) وضع الحصباء على القبر الحصباء
هي صغار الحصى، ولا بأس من وضعها على القبر ؛ لأن ذلك أثبت له، وأبعد عن اندراسه، كما أن فيه محافظة عليه من أن تذهب الريح ترابه وذلك لما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم -، أنه رش على قبر ابنه الماء، ووضع عليه حصباء من حصباء العرصة، ورفع قبره قدر شبر، وقال النووي: «ويستحب أن يوضع على القبر حصباء، وهو الحصى الصغار». وقال المعلمي: رفع القبر قليلاً وإلقاء الحصى عليه مشروع».
(8) رش الماء على القبر بعد دفن الميت
فلا بأس من رش الماء على القبر؛ لأن في رش الماء على القبر تسوية له، ومما يدل على جواز رش القبر بالماء، ما روي أن الرش على القبر كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: «رش على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - الماء رشا قال: وكان الذي رش الماء على قبره بلال بن رباح، وفي الحديث: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رش على قبره الماء».
(9) تعليم القبر حتى يُعرف
لا بأس أن يوضع على القبر علامة، حتى يعرف فيُزار، وقد فعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أنه لما مات عثمان بن مظعون رضي الله عنه ، وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رأسه حجارة وقال: «أتعلم بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي»، وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أعلم قبر عثمان بن مظعون بصخرة» وقال ابن قدامة: ولا بأس من تعليم القبر بحجر أو خشبة، قال أحمد: لا بأس أن يعلّم الرجلُ القبر علامة يعرف بها.
وقد اختلف العلماء في جواز تعليم القبر إلا أنَّ الراجح في هذا الأمر هو جواز التعليم لما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم -، والحديث تعددت طرقه، وقد صححه أئمة أثبات ونص على هذه السنية من هم أغير منا على أحمد السنة؛ كالإمام رحمه الله، والسُّنة يعمل بها، ولو لم تثبت إلا مرة واحدة، وكون الرسول -صلى الله عليه وسلم - علم على قبر عثمان ولم يعلّم على قبر غيره فهذا ليس بحجة، وليس مدخلاً للطعن في ثبوت الحديث، وليس هناك تعارض بين الأمر بتسويتها وتعليمها، وكون الناس خالفوا في ذلك فليس في ذلك مدخل لتبديع وضع علامات على القبور إن كانت من جنس ما فعله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن ينبغي الابتعاد عما يخالف السنة من خلال مبالغات بعض الناس بالتعليم؛ وذلك كوضع ألوان، أو الإكثار من الأحجار، أو وضع أخشاب وحديد وأعلام، وما شابه ذلك؛ لأنها من الأمور التي لم تثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم ، وهذه هي القبور المشروعة للمسلمين، وهذه هي الصفة الشرعية لها، وما عداها فيجب أن يُزال.
فعن أبي الهياج الأسدي، قال: قال لي علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ألا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته»، وقال النووي: وفيه أن السنة أن القبر لا يرفع عن الأرض رفعاً كثيراً، وكان فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - بأرض الروم، فتوفي صاحب له، فأمر بقبره فسوّي، ثم قال: «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بتسويتها».
لاتوجد تعليقات