رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: إيهاب شاهين 1 ديسمبر، 2017 0 تعليق

بدعة تكفير المسلمين(3) الضوابط والقيود المانعة من تكفير المسلمين

تقدم في المقال السابق الضوابط والقيود والأصول التي وضعها علماء أهل السنة للتكفير, حتى لا تزل الأقدام وتضل الأفهام, ويقع أهل الأهواء وحدثاء الأسنان في تكفير الأنام، ونستكمل الحديث عن هذه الضوابط وتلك الأصول:

لا يُحْكم على الرجل بلازم كلامه

     والضابط الثالث الذي وضعه العلماء هو أنه لا يُحْكم على الرجل بلازم كلامه أو مآله, إلا إذا عُرض عليه لازم قوله والتزمه، وأقرّ بأنه قوله أيضًا, وإنما يُحكم عليه بصريح كلامه, وقد يقول بعضهم: لا يلزم من الكفر في المآل الكفْرُ في الحال, أو لازم القول ليس بقول إلا إذا التزمه.

      وهذا من رحمة الإسلام وعَدْله؛ فقد يتكلم المرء بكلام لا يستحضر لوازمه وما يؤول إليه؛ فتحميله هذه اللوازم مباشرةً دون معرفة رضاه بها أم لا، ليس من الرحمة التي جاء بها هذا الدين, لكن إذا عُرض عليه كلامه, وأُخْبِر بلوازمه الفاحشة التي لا تنفك عنه؛ فإن قَبِلَها فيُحكم عليه بما يستحق, وإلا كان متناقضًا, ولا يلزم من تناقضه أن يكون كافرا؛ فإن التناقض شيء, والكفر شيء آخر, وقد قال الشاطبي: -رحمه الله-: «والذي كنا نسمعه من الشيوخ: أن مذهب المحققين من أهل الأصول: أن الكفر بالمآل ليس بكفر في الحال, كيف والكافر ينكر ذلك أشد الإنكار, ويرمي مخالفه به» اهـ.

لا يلزم نفْي الإيمان

     الضابط الرابع: أنه لا يَلْزم مِنْ نفْي الإيمان عمن قال كذا، أو فَعَلَ كذا وقوع الكفر أصلاً؛ فقد يكون هذا لنفْي الكمال الواجب للإيمان, لا لنفْي أصل الإيمان, ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : «والله لا يؤمن, والله لا يؤمن, والله لا يؤمن» قيل: من يا رسول الله؟ قال: «الذي لا يأمن جارُه بوائقَه» .

      ونحو ذلك ما ورد في الأحاديث: «ليس منا...»، أو «... فهو منهم»، أو «لا يدخل الجنة...» أو «...فهو في النار»، و«... فقد كفر» أو «... فقد أشرك» ونحو هذا، فلابد من معرفة المراد بهذه النصوص: هل المراد نَفْي أصل الإيمان، أو كماله الواجب؟ ولا يصح حَمْلها أو حَمْل بعضها على نفي المستحب؛ لأن تارك المستحب لا يقال في حقه: «ليس منا» أو: «لا يؤمن» إلخ، ولو تأكدنا من أن المراد نفْي أصل الإيمان؛ فبقي مراعاة الشروط والموانع الأخرى.

الكفر مضاد للإيمان

       الضابط الخامس: أن الكفر مضاد للإيمان؛ فيكون بالقول والعمل والاعتقاد, كما أن الإيمان قول وعمل واعتقاد, والكفر له أصول وشُعب, كما أن الإيمان له أصول وشُعب, فإذا كان القول أو الفعل أو الاعتقاد ينافي أصل الإيمان, ويوافق أصل الكفر؛ فهو كفر أكبر, وإذا كان ينافي بعض شُعب الإيمان وواجباته, ويوافق بعض شُعب الكفر - التي لم تبلغ إلى درجة أصول الكفر- فهذا نَقْصٌ – بالصاد المهملة- في الإيمان, ونَفْيٌ لكماله الواجب لا أصل الإيمان.

       ومع أن التكذيب والجحود أعظم أنواع الكفر وأُسُّه؛ لكن الكفر ليس محصورًا فيهما؛ فالكفر يكون: بالتكذيب، والجحود، والشك، والنفاق، والإعراض، والاستهزاء، والتولِّي، وغير ذلك مما نصَّ عليه أهل العلم، وإن كان بعضها مترادفًا لمعنى واحد، أو داخلاً في نوع آخر من أنواع الكفر، أو عائدًا إليه، إلا أن الحصر للكفر في التكذيب قول مجانب للصواب.

ما كان كفرًا بذاته

       الضابط السادس: ما كان كفرًا بذاته, أي أنه من أصول الكفر؛ فلا يُشترط في التكفير به استحلال فاعله, إنما يُشترط الاستحلال في المعاصي والذنوب التي هي دون الكفر؛ فإن الاستحلال لما حرم الله نوع مستقل من أنواع الكفر، بعد مراعاة شروطه وضوابطه، ولا يُشترط في التكفير للمعين توافر نوعين فأكثر من أنواع الكفر، بل هذا من زيادة الطغيان والجرأة على الله -تعالى.

      (تنبيه): استحلال المحرم كتحريم ما أوجبه الله في التكفير به، فمن استحل الفواحش والكبائر، كمن حرّم أداء الزكاة، وصوم رمضان، وبرَّ الوالدين، وصلة الرحم، وغير ذلك من الواجبات الشرعية المقطوع بوجوبها دون تأويل يُعْذَر به.

الكفر كفران

       الضابط السابع: الكفر كفران, أكبر وأصغر, وبعضهم يقول: كفر اعتقادي, وكفر عملي, وليس ذلك دقيقًا, فالكفر العملي منه ما هو أكبر وأصغر أيضًا, ومنه ما يدل على اعتقاد أمر مكفِّر, ومنه دون ذلك, وهناك أمور مكفرة سواء دلت على اعتقاد أمرٍ مُكَفِّرٍ أم لا, ولا يُشترط معرفة اعتقاد المرء فيها, إنما هي كفْر مجرد, كمن سجد لصنم, أو سب الرب عز وجل, أو رسوله[, وادعى أنه فعل ذلك إغاظة لفلان, أو تقليداً لفلان، وإلا فهو لا يعتقد ذلك, فلا يُقبل منه هذا, ويُحكم بكفره وإن أصرَّ على ذلك بعد مراعاة الشروط والموانع.

      وكذا الشرك شركان: أكبر وأصغر, والنفاق نفاقان: اعتقادي وعملي, أو أكبر وأصغر, والفسق فسقان, والظلم ظلمان, والذنب ذنبان, والمعصية معصيتان, والبدعة بدعتان, والجهل جهلان, والضلال ضلالان. إلخ، ولابد من الرجوع في تفصيل ذلك إلى سياق الأدلة, والجمع بينها, وشروح العلماء, وإلا فهذا مَظِنة مزلة أقدام, وضلال أفهام, والله المستعان.

المسلم لا يكفر بارتكاب الكبيرة

      الضابط الثامن: أن المسلم لا يخرج من الإسلام بارتكاب الكبيرة أو الكبائر وإن أصرّ عليها, والإصرار عدم التوبة من الذنب، ولا يَكْفُر المرء به ما لم يستحل ذلك, والاستحلال منه قولي, ومنه عملي؛ فالقولي: هو جَعْل الحرام الصريح المجمع عليه حلالاً, وبنحوه - في المعنى- جَعْل الحلال الصريح المجمع عليه حرامًا دون تأويل فيهما, والتأويل عُذْر حتى يُزال عن صاحبه اللبس, وأما الاستحلال العملي فظاهر من حرص فاعل المعصية عليها, وفرحه بالظَّفَر بها, والصواب أنه لا يُكَفَّر إلا بالاستحلال القولي, وإلا كفَّرنا كثيرًا من ذوي المعاصي والذنوب.

      ومن الأدلة على أن الإصرار على الذنب ليس كفرًا مخرجًا من الملة: قوله -تعالى-: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}(النساء:48)؛ فقسَّمت الآية الذنوب إلى قسمين، وهما: الشرك، وما دونه، وحكمتْ بحكمين، الأول: أن الشرك لا يُغفر، أي إذا لم يتب صاحبه؛ فإنه لا يكفِّر الشرك إلا التوبة، والثاني: المغفرة لمن شاء الله له ذلك، ممن وقع فيما هو دون الشرك، أي دخول الشخص تحت المشيئة، وهذا فيمن لم يتب، وإلا لو تابوا لغُفر لهم جميعًا، لا لبعضهم الذي يشاء الله ذلك له، دون التائب الآخر، فإن الله -عز وجل- يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات، والتوبة تجُبُّ ما قبلها؛ فدلت الآية على أن من يدخل تحت المشيئة ليس تائبًا، وهذا هو تعريف المُصِرُّ على ذنبه، ولو كان مشركًا بإصراره لأُلحق بالقسم الأول؛ فلما غايرت الآية بينهما دل ذلك على تغاير أحكامهما، والله أعلم.

المعلوم من الدين بالضرورة

      الضابط التاسع: أن المعلوم من الدين بالضرورة أَمْرٌ إضافي نسبي, يتغير من زمن إلى زمن, ومن مكان إلى مكان, ومن شخص إلى آخر؛ فقد يكون أحد الواجبات معلومًا في زمن ما, أو مكان ما, أو لشخص ما, ولا يكون كذلك الأمر نفسه في زمن آخر, أو مكان آخر, أو لشخص آخر؛ ولذلك لا يُطبق كلُّ ما يُقرأ عن العلماء في هذا المعنى في أي زمان, أو مكان, أو على أي شخص حتى يُنظر: هل خالف المعلوم بالضرورة من الدين عنده, أو عند أهل زمانه وأمثاله, أم لا؟ وحديث حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: «يَدْرُس الإسلام كما يَدْرُس وشْي الثوب، حتى لا يُدرَى ما صيام، ولا صلاة، ولا نُسك، ولا صدقة، وليُسْرى على كتاب الله -عز وجل- في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس: الشيخ الكبير، والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله؛ فنحن نقولها «فقال صلة بن زفر لحذيفة: ما تغني عنهم لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة؟! فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه ثلاثًا، كل ذلك يُعْرِض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة، قال: يا صلة، تنجيهم من النار، تنجيهم من النار، تنجيهم من النار»؛ فهذا دليل على أن هناك طوائف قد تجهل وجوب الصلاة والصيام والزكاة والحج، بل وبقية الواجبات إلا كلمة التوحيد، وهل هناك معلوم من الدين بالضرورة أشهر من هذه الأمور التي جهلتها هذه الطوائف؟ فالمسألة نسبية إضافية، تختلف من شخص لآخر، ومن زمن لآخر، ومن بلد لآخر. بتصرف من رسالة (ضوابط وأصول التكفير والتفسيق)

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك