بدعة تكفير المسلمين(2) الضوابط والقيود المانعة من تكفير المسلمين
قدمنا في المقال السابق بعض الأدلة التي تبين حرمة الإقدام على تكفير المسلمين بلا برهان وخطورة ذلك، أو من ثبت له عقد الإسلام دون بينة واضحة ظاهرة كالشمس في رابعة النهار, وقد ذكرت أن علماء أهل السنة وضعوا لهذا الأمر ضوابط وقيودًا وأصولا, حتى لا تزل الأقدام وتضل الأفهام , ويقع أهل الأهواء وحدثاء الأسنان في تكفير المسلمين، من بعض هذه الضوابط والأصول:
- الأول: أن الأحكام على الناس لا تُقْبل إلا من أهل العلم الشرعي, كالعلماء الكبار, أما المبتدئون في الطلب, والخطباء المتحمسون بلا زمام ولا خطام، والكُتَّاب الذين اختلطت مشاربهم، والطلاب الذين لم يتأهلوا لذلك؛ فليس لهم الحق في الخوض في الأحكام على الأفراد, وإلا أفسدوا أكثر مما يصلحون, والواقع يشهد بذلك، فقد كفَّر بعضهم بعضًا بعد تكفيرهم المجتمعات، وكثيراً من الأفراد، فلما اختلفوا في بعض المخالفين لهم؛ رَجع بعضهم على بعض بالتكفير، وهذا من شؤم الغلو والإفراط!! ولو فُتح هذا الباب لمن دبَّ ودرج لأفسد أمة بأسْرها!!
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن ابن حسن آل الشيخ في رده على من خاض في قضايا التكفير دون أهلية: «...لا يتكلم فيها –أي في مسائل التكفير- إلا العلماء من أولي الألباب, ومن رُزق الفهم عن الله, وأُوتي الحكمة وفَصْل الخطاب, والكلام في هذا يتوقف على ما قدمناه, ومعرفة أصول كلية لا يجوز الكلام في هذا الباب وفي غيره لمن جهلها, وأعرض عنها, وعن تفاصيلها» اهـ.
- الثاني: الحكم المُطْلَق أو العام لا يستلزم الحكم على المعين بذلك وهذه القاعدة المعروفة بالفرق بين كفر النوع وكفر العين؛ فالعلماء يُقَرِّرون أن هناك فَرْقًا بين الحكم العام, والحكم على الشخص, فَفَرق بين الحكم على القول أو الفعل أو الاعتقاد، وبين الحكم على القائل أو الفاعل أو المعتقِد، وليس كل من وقع في الكفر أو البدعة، وقع عليه الكفر أو البدعة، ومن أمثلة كلام أهل العلم في ذلك:
أ- قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «إني من أعظم الناس نَهْيًا عن أن يُنْسَب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية, إلا إذا عُلم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرًا تارة, وفاسقًا أخرى, وعاصيًا أخرى» اهـ.
ب- وقال أيضًا: «إن التكفير له شروط وموانع، قد تنتفي في حق المعين, وإن تكفير المطلق لا يلزم منه تكفير المعين, إلا إذا وُجدت الشروط, وانتفت الموانع, يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفِّروا أكثر من تكلم بهذا الكلام» وقال: «حتى يقوم فيه المقتضِي - أي للتكفير- الذي لا معارض له» اهـ وقال: «لابد من إقامة الحجة, وإزالة الشبهة»
جـ- وقال ابن أبي العز: «وأما الشخص المعين إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد, وأنه كافر؟ قلنا: لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة؛ فإن من أعظم البغي أن يُشْهد على معيَّن أن الله لا يغفر له, ولا يرحمه, بل يخلده في النار, فإن هذا حكم الكافر بعد الموت» اهـ.
فإنزال الحكم العام على المعيَّن لا يكون إلا بعد استيفاء الشروط, وانتقاء الموانع, فإذا تخلَّف شرط من شروط التكفير أو التفسيق أو التبديع, أو بقي مانع من موانع هذا الحكم على المعيَّن؛ فلا يُحكم على المعين بشيء من ذلك, والأصل أن يبقى المرء على ما هو عليه قبل إتيانه بما أتى به, حتى يتم استيفاء جميع الشروط فيه وانتفاء جميع الموانع عنه. فإن قيل: ما الشروط الواجب توافرها, والموانع الواجب انتفاؤها قبل الحُكم على المعين؟ فالجواب: أن هذه الشروط والموانع هي:
العقل
العقل, ومقابله الجنون, فالعقل شرط, والجنون مانع, فلا تكليف مع الجنون, لقوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «رُفِعَ القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يَبْلُغ, وعن النائم حتى يستيقظ, وعن المجنون حتى يُفيق».
البلوغ
البلوغ, ومقابله الصغر للحديث السابق.
العلم
العلم الإجمالي , ومقابله الجهل, وهذه سنفرد لها مقالا خاصا بإذن الله.
القصد
- القصد: أي قَصْد الفعل أو القول أو الاعتقاد المُكَفِّر، وإن لم يَعْلم المرء أنه كُفْر؛ لأنه لا يُشترط في التكفير أن يقصد الكافر فعل الكفر فيما يراه هو؛ لأنه لو كان كذلك لما كفر اليهود والنصارى؛ فإن أكثرهم كفر وهو يظن أنه يحسن صنعا، قال -تعالى-: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}(الكهف:104)، وقال -تعالى-: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأعراف:30)، فمن قصد الفعل المكفِّر - وإن لم يعلم أنه كُفْر- وعلم بأنه منهي عنه، فقد توافر فيه شرط القصد، ثم إذا ظهر أنه جاهل يُعَلَّم؛ فإن أصرَّ كَفَرَ بهذا، ويُنظر في بقية الشروط والموانع، أي أنه إذا بلغه حكم الله فيما أتى، فلا يُشترط أن يُسلِّم لمن يقيم عليه الحجة بذلك، شريطة ألا يكون المحكوم عليه عالمًا؛ لاحتمال أنه اجتهد ورأى في حُكْم المسألة خلاف ما يرى العالم الذي يقيم عليه الحجة، وهذا لا يكون في المسائل المجْمَع عليها.
- والخلاصة: أنه لا يُشترط أن يقول: نعم أنا أفعل الكفر، وسأستمر على ذلك، إنما يُشترط أن يُبَلَّغ حكم الله ممن تقوم به الحجة، وأن يُخْبرَ أن ما هو عليه كُفْرٌ أكبر؛ فإن أصر وعاند كَفَرَ، بعد مراعاة بقية الشروط والموانع، والله أعلم.
والقصد منه عام وخاص، فالعام: هو تحقيق الإرادة الجازمة لتحقيق الفعل على وجه الرضا والاختيار؛ بحيث يكون الإنسان مخيرًا بين أن يفعل الفعل أولا يفعله, وهذا هو مناط التكليف.
- وأما القصد الخاص: وهو إرادة فِعْل الكفر أو الفسق أو البدعة مع العلم بحكم ذلك, فقد سبق أن هذا ليس شرطًا في التكفير, والله أعلم. والقَصْد مقابله الخطأ, فالخطأ مانع من موانع التكفير أو الفسق أو البدعة, لقوله صلى الله عليه وسلم : «إن الله وضع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه»، وحديث: الرجل الذي وجد راحلته بعد ما ضلَّتْ عليه, وأيقن بالهلكة, فقال: «اللهم أنت عبدي, وأنا ربك» أخطأ من شدة الفرح. والتأويل السائغ: قال الحافظ: «يقول العلماء: كل متأول معذور بتأويله, ليس بآثم: إذا كان تأويله سائغًا في لغة العرب, وكان له وجْه في العلم» اهـ
- الاختيار- ومقابله الإكراه, والإكراه: هو حَمْلُ الغير قهرًا على ما ينافي رضاه واختياره, أو إلزام الغير بما لا يريده.
وله شروط:
أ- أن يكون المكرِه - قادرًا على إنفاذ وعيده.
ب- أن يكون المكرَه - عاجزًا عن دفع الضرر عن نفسه, ولو بالفرار.
جـ- أن يغلب على ظن المكرَه - وقوع ما هُدِّد به.
د- أن يكون الضرر المترتب على عصيان المكرِه - كبيرًا: كقتْل, أو قطْع عضو, أو ضرْب شديد, أو حبْس طويل, أو قطْع رزق يتضرر بقطعه, فإن كان المكرَه - من أصحاب المروءات والوجاهة؛ اعْتُبِر في حقه يسير الحبس، والشتم، والأذى المعنوي ضررًا كبيرًا, وإكراهًا, قاله الجمهور اهـ, ومن الأدلة على أن الإكراه عُذْرٌ:
قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(النحل:106).
فهذه شروط التكفير التي يجب توافرها, وهذه موانع يجب انتفاؤها قبل الحكم على المعين بالتكفير أو التفسيق أو نحوهما، ومن هنا صرح العلماء بأنه لا يلزم من إطلاق الحكم العام الحكمُ على المعين إلا بعد استيفاء الشروط وانتفاء الموانع.
لاتوجد تعليقات