رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: إيهاب شاهين 14 يناير، 2018 0 تعليق

بدعة تكفير المسلمين- وقفات مع حديث الرجل الذي ذرى نفسه

استكمالاً لما بدأناه في الحلقة الماضية من ذكر الأدلة على مسألة العذر بالجهل من القرآن والسنة، نقف في هذه الحلقة مع حديث من أظهر الأدلة في اعتبار الجهل عذرًا, وهو حديث الرجل الذي ذري نفسه وقد ذكر بعض العلماء تأويلات لهذا الحديث الجليل تخالف منهج أهل السنة والجماعة, وفي هذا المقال نذكر هذه التأويلات والرد عليها, نقول وبالله التوفيق، ومن هذه التأويلات:

التأويل الأول

- التأويل الأول: قوله لئن قدر الله عليّ، أي قضاه، يقال منه قدر بالتخفيف، وقدر بالتشديد بمعنى واحد، أو قدر بمعنى ضيق على من مثل قوله تعالى: {فقدر عليه رزقه} (الفجر، 16)، وقوله تعالى: {فظن أن لن نقدر عليه} (الانبياء 87)، على أحد الأقوال في تفسيرها.

- والرد: المتأمل لسياق الحديث يتبين له ضعف هذا القول، فكيف يقال لئن قدر الله على العذاب ليعذبني أو لئن ضيق عليّ ليعذبني، فهذا لا معنى له، وكذلك لو كان المعنى مما سبق فما فائدة أمره لأهله بإحراقه ثم ذره.

     ورد شيخ الإسلام قائلاً: «ومن تأول قوله: لئن قدر الله عليّ بمعنى قضى، أو بمعنى ضيق فقد أبعد النجعة، وحرف الكلم عن مواضعه، فإنه إنما أمر بتحريقه وتفريقه لئلا يجمع ويعاد، وقال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في الريح وفي البحر؛ فوالله لئن قدر عليّ ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً، فذكر هذه الجملة الثانية بحرف الفاء عقيب الأولى يدل على أنه سبب لها، و أنه فعل ذلك لئلا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، فلو كان مقراً بقدرة الله عليه إذا فعل ذلك كقدرته عليه إذا لم يفعل لم يكن في ذلك فائدة له، و لأن التقدير والتضييق موافقان للتعذيب.

قال: فو الله لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين، فلا يكون الشرط هو الجزاء» (مجموع الفتاوى 11/410).

التأويل الثاني

- التأويل الثاني: أنه قال ذلك في حال دهشته ولم يقله قاصداً لحقيقة المعنى، وهذا القول رجحه ابن حجر؛ حيث قال في الفتح: «وأظهر الأقوال أنه قال ذلك في حال دهشته، وغلب الخوف عليه حتى ذهب بعقله لما يقول، ولم يقله قاصداً لحقيقة معناه، بل في حالة كان فيها كالغافل، والذاهل والناسي الذي لا يؤخذ بما يصدر منه» (الفتح 6/523، ومسلم بشرح النووي 17/71.).

- والرد: هذا التفسير فيه ضعف ظاهر من وجهين:

- الأول: أنه لو كان غير مدرك ولا عاقل لما يقول, لفهم أولاده ذلك ولما نفذوا هذه الوصية.

- الثاني: أن هذا الحديث يذكر لبيان سعة رحمة الله -عز وجل-؛ حيث غفر لهذا الرجل رغم هذا الجهل الكبير، فلو كانت المغفرة لرجل أخطأ في كلام قاله دون شعور منه ولا إدراك لما يقول لما كان للمغفرة في هذه الحالة مزية، ولصار في حكم من سقط عنه التكليف، وحينئذ لا يعد قد ارتكب خطأ؛ ولذلك من فقه الإمام الزهري أنه لما روى هذا الحديث الذي تتبين فيه سعة رحمة الله وفضله، روى بعده حديث المرأة التي دخلت النار في هرة حبستها , ثم قال: «ذلك لئلا يتكل رجل، ولا ييأس رجل» (انظر مسلم بشرح النووي 17/72: قال النووي: «معناه أن ابن شهاب لما ذكر الحديث الأول خاف أن سامعه يتكل على ما فيه من سعة الرحمة وعظم الرجاء؛ فضم إليه حديث الهرة الذي فيه من التخويف ضد ذلك ليجتمع الخوف والرجاء».

التأويل الثالث

- التأويل الثالث: منهم من يقول الحديث من المتشابه ولابد أن يرد إلا المحكم.

- والرد: فيقال له: صرف اللفظ عن ظاهرة دون دليل يعد تحريفا وليس تأويلا.

التأويل الرابع

- التأويل الرابع: منهم من يقول: الحديث فيه احتمالات كثيرة، والقاعدة تقول: من دخله الاحتمال بطل به الاستدلال.

- والرد: فيقال له أغلب آيات القرآن وأحاديث النبي مختلف في تفسيرها وشرحها؛ فلو طبقنا القاعدة لكثرة الشروح والتفسير لتركنا أكثر القرآن والسنة، وهذا لم يقل به عالم قط!

التأويل الخامس

- التأويل الخامس: منهم من يقول الحديث له روايات كثيرة ضعيفة وصحيحة ومختلفة فيجب عدم الأخذ به في العقائد!

- والرد: كثير من الأحاديث لها روايات كثيرة ومنها ضعيفة ومختصرة ومطولة ومختلفة؛ فالعلماء يتركون الضعيف، ويجمعون الروايات الصحيحة مع بعضها، ويأخذون بها ولا حجة لترك الحديث إذاً.

التأويل السادس

- التأويل السادس: منهم من تأول وقال: إنه كان بمثابة الغافل الذي لا يدري ما يقول.

- والرد: هذا تأويل بلا سند؛ فليس في متن الحديث ما يعضده، بل فيه ما يرده وهو قوله: «فغفر الله له»؛ لأن المغفرة تكون لمن كان عاقلا قاصدا للفعل مختارا لا لمن ارتفع عنه التكليف، ثم إنه لما اعتذر قال: «خشيتك» ولم يقل: «ذهلت، ولم أكن أدري ما أقول» والذي يفهم من هذا التأويل أنها زلة لسان حدثت في حال قوة الخوف، وهي حال لا تدوم ولو كان ذلك لاستدرك ولفهم ذلك أولاده ولما نفذوا وصيته.

التأويل السابع

- التأويل السابع: منهم من قال بأن هذا كان موحدا كما جاء في بعض الروايات وأن خطأه كان في الصفات والخلاف في تكفير منكر الصفات ثابت والعذر فيها جائز.

- والرد: نعم كان موحدا لذلك كان من مقتضى عذره دخول الجنة لا الامتحان، لكن لا نسلم أن خطأه كان متعلقا بصفة القدرة فحسب بل كان متعلقا بأصل من أصول الاعتقاد وهو الإيمان باليوم الآخر والقدرة على البعث، والكفر لا يكون فقط بالوقوع في الشرك بالله -تعالى- بل يكون بالقول والعمل والاعتقاد والشك، وهذا شك في البعث وفي قدرة الله تعالى، وأي فرق بين الشرك بالله والشك في المعاد.

التأويل الثامن

- التأويل الثامن: منهم من أكثر من الأقوال المذكورة في تأويله حتى تلك الواردة عمن لا يعرف، وقد أبلغها بعضهم إلى سبعة أقوال، ليبين أن تفسير ابن تيمية وابن حزم من قبله ومن تبعهما ليس متفقا عليه، أو لبيان أن العلماء قد استشكلوا لفظ الحديث لكونه قد عارض القواطع عندهم.

- والرد: أنه ليس من شرط صحة الاحتجاج بالحديث أن يتفق الناس أولهم وآخرهم، سلفيهم وخلفيهم على معناه، والأصل إعمال الحديث وحمله على ظاهره، وأما الاستشكال فيكون مقبولا إذا ما عورض الحديث بأدلة نقلية أخرى، أما إذا كان مصدره ما يسميه الخلف معقولات قطعية فإنه لا عبرة به.

التأويل التاسع

- التأويل التاسع: قال صاحب المجهر (251): «إن تأويل العلماء لهذا الحديث وصرفه عن معناه الظاهري لخير بيان أن ظاهر الحديث غير مراد وأنه معارض لأصولهم الكلية، وهم ينزلون قضايا الأعيان على مقتضى القواعد الكلية، فإن كان من أصولهم: إعذار الجاهل لقالوا جميعا: إن هذا الرجل جهل قدرة الله وكان جاهلا وعذر بجهله، وكفوا أنفسهم مؤونة التأويل؛ لأن التأويل عندهم شر لا يذهبون له إلا في حالة الضرورة عندما تصطدم قضية من قضايا الأعيان أو دليل جزئي مع القواعد والأصول الكلية».

- والرد: من هؤلاء العلماء الذين تأولوا الحديث؟ وهل صحيح أنهم يعدون التأويل شرا؟ أليس أكثرهم يتأولون الصفات لقطعيات المعقول عندهم؟ ثم هل أجمعوا على التأويل وبطلان الظاهر؟ وإذا لم يجمعوا فلا حجة في كلامهم؛ لأنا نقول: لماذا لا يكون قول ابن قتيبة والخطابي الذي نقله هو الصواب وقد حملا الحديث على ظاهره، لكني على يقين أنه نقل الكلام ولم يفهمه.

التأويل العاشر

- التأويل العاشر: جاءت بعض الروايات الصحيحة ليس فيها قوله لئن قدر الله عليه؛ فالحديث ليس حجة على العذر بالجهل.

- الرد: هذه أحاديث مطلقة والروايات الأخرى تقيدها ووجوب جمع الروايات للحديث الواحد ثم العمل به.

التأويل الحادي عشر:

قد يقال: إن هذا شريعة من قبلنا فلا يعد حجة

- الرد: حتى وإن كان من شريعة من قبلنا فهو حجة؛ لأن عقيدة الأنبياء واحدة لا تتبدل ولا تتغير ولا تقبل النسخ، وأما الحرام والحلال فهذه من يدخلها النسخ وغيره.

التأويل الثاني عشر

- التأويل الثاني عشر: قد يقال إن هذا حجة لمن أنكر صفة من صفات الله أو شيء خفي وليس كمن فعل الشرك الأكبر الظاهر.

- الرد: أولاً هذا قال لئن قدر الله عليَّ يعني ظاهرها أنه أنكر أن الله يجمعه ويبعثه للحساب؛ فهذا شيء ظاهر وليس شيئا خفيا كما يقال، وليس صفة خفية أيضاً، غير أن الدليل عام ولم يخصصه شيء، فربنا غفر له؛ لأنه جاهل، وكان يخشاه وليس بسبب أنه جهل شيئا خفي والله أعلم.

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك