رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: إيهاب شاهين 15 ديسمبر، 2017 0 تعليق

بدعة تكفير المسلمين وخطرها على مجتمعاتنا (5) حسن الظن بأهل القبلة

ذكرنا في المقال السابق أن نصوص الكتاب والسنة حذرت من تكفير المعين بلا دليل واضح، وذكرنا أن من أصول أهل السنة حسن الظن بأهل القبلة أحياءً وأمواتاً وحسن الرجاء لهم، ثم تكلمنا عن مسألة العذر بالجهل، وهل هي في مسائل الدين كله أم لا؟ وأوردنا الأدلة الواضحة من القرآن الكريم على ذلك، واليوم نستكمل الحديث عن تلك الأدلة من السنة النبوية المطهرة.

الدليل الأول

     حديث حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب (وشي الثوب: لونه ونقشه ونسجه، انظر لسان العرب 15/392.). حتى لا يُدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، وليسري على كتاب الله -عز وجل- في ليلة، فلا يبقي في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس، الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله فنحن نقولها» فقال له صلة: ما تغنى عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة ثم ردها عليه ثلاثاً كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة، فقال: يا صلة تنجيهم من النار ثلاثاً» (رواه ابن ماجه وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 87).

دليل على العذر بالجهل

      هذا الحديث وإن كان يتحدث عن حال الناس في آخر الزمان؛ حيث لا يدري ما صلاة ولا صيام، فإن فيه دليلاً على العذر بالجهل؛ حيث ينطبق الحديث على بعض الأمكنة أو الأزمنة بالقياس؛ حيث ينتشر الجهل ويضعف نور النبوة، فتخفى على بعض الناس كثير من الأحكام الظاهرة المتواترة، ولكن لابد من الإقرار الذي عليه مدار النجاة؛ لأنه دون الإقرار لا يكونون مسلمين.

      يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة التي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة؛ فلا يعلم كثيراً مما بعث الله به رسوله ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر، ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام فأنكر هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول؛ ولهذا جاء في الحديث: «يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا زكاة» ثم ذكر بقية الحديث.

الدليل الثاني

      حديث أبي هريرة قال: «كان رجل يسرف على نفسه؛ فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذرُّوني في الريح؛ فوالله لئن قدر علي ربي ليعذَبنِّي عذابا ما عذبه أحد؛ فلما مات فعل به ذلك؛ فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك منه ففعلت فإذا هو قائم؛ فقال ما حملك على ما صنعت؟ قال يا رب خشيتك فغفر له» متفق عليه.

      قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مجموع الفتاوى (11/409): «فهذا الرجل ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفرق؛ فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك، لكنه كان مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره وخشيته منه جاهلا بذلك ضالا في هذا الظن مخطئا، فغفر الله له ذلك. والحديث صريح في أن الرجل طمع ألا يعيده إذا فعل ذلك، وأدنى هذا أن يكون شاكا في المعاد وذلك كفر - إذا قامت حجة النبوة على منكره حكم بكفره -».

التكفير هو من الوعيد

      وقال في مجموع الفتاوى (3/231): «والتكفير هو من الوعيد؛ فإنه وإن كان القول تكذيبا لما قاله الرسول، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لا يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده بمعارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئا.

الشك والجهل

      وقال في الكيلانية (1/92) و(مجموع الفتاوى 1/491)،: «فهذا الرجل كان قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله -تعالى- على إعادة ابن آدم بعد ما أحرق وذري وعلى أنه يعيد الميت ويحشره إذا فعل به ذلك، وهذان أصلان عظيمان: «أحدهما «متعلق بالله -تعالى- وهو الإيمان بأنه على كل شيء قدير، و«الثاني» متعلق باليوم الآخر، وهو الإيمان بأن الله يعيد هذا الميت ويجزيه على أعماله ومع هذا فلما كان مؤمنا بالله في الجملة ومؤمنا باليوم الآخر في الجملة وأن الله يثيب ويعاقب بعد الموت وقد عمل عملا صالحا - وهو خوفه من الله أن يعاقبه على ذنوبه - غفر الله له بما كان منه من الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح.

حتى تقوم عليه الحجة

      وقال الإمام عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: في هذه المسألة قوله في الدرر السنية (10/ 239-240): «إذا فعل الإنسان الذي يؤمن بالله ورسوله، ما يكون فعله كفرا، أو اعتقاده كفرا، جهلا منه بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ، فهذا لا يكون عندنا كافرا، ولا نحكم عليه بالكفر حتى تقوم عليه الحجة الرسالية، التي يكفر من خالفها؛ فإذا قامت عليه الحجة، وبين له ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأصر على فعل ذلك بعد قيام الحجة عليه، فهذا هو الذي يكفر؛ وذلك لأن الكفر: يكون بمخالفة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا مجمع عليه بين العلماء في الجملة، واستدلوا بقوله -تعالى-: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}، وبقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً} إلى قوله: {بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ}.

      واستدلوا أيضا: بما ثبت في الصحيحين والسنن، وغيرها من كتب الإسلام، من حديث حذيفة -رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن رجلا ممن كان قبلكم، قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم ذروا نصفي في البر، ونصفي في البحر...الحديث».

جهله ليس بمخرجه من الإيمان

      وقال الحافظ ابن عبد البر - رحمه الله-: «وأما جهل هذا الرجل المذكور في هذا الحديث بصفة من صفات الله في علمه وقدرته، فليس ذلك بمخرجه من الإيمان» ثم استدل على ذلك بسؤال الصحابة - رضي الله عنهم - عن القدر ثم قال: «ومعلوم أنهم إنما سألوه عن ذلك وهم جاهلون به، وغير جائز عند أحد من المسلمين أن يكونوا بسؤالهم عن ذلك كافرين، ولم يضرهم جهلهم به قبل أن يعلموه» (التمهيد 18/46،47.).

لم ينكر البعث

      وقال الإمام الخطابي -رحمه الله-: «قد يستشكل هذا فيقال: كيف يغفر له وهو منكر للبعث والقدرة على إحياء الموتى؟ والجواب أنه لم ينكر البعث وإنما جهل فظن أنه إذا فعل به ذلك لا يعاد فلا يعذب، وقد ظهر إيمانه باعترافه بأنه إنما فعل ذلك من خشية الله» (فتح الباري 6/523).

إذن يمكن أن نستخلص من كلام الأئمة أمرين مهمين:

- الأول: أن عمل هذا الرجل هو كفر؛ لأن فيه إنكاراً لقدرة الله -تعالى- على إعادته بعدما يحرق، ولكنه عذر بسبب جهله الذي قاده إلى هذا الظن الفاسد.

- الثاني: أن هذا الرجل معه أصل الإيمان وهذا واضح في الحديث، وهكذا فهم الأئمة، وقد ذكر بعض العلماء بعض التأويلات لهذا الحديث تخالف ما سبق، وسنشير إلى هذه التأويلات برد علمي في مقال لاحق. والحمد لله رب العالمين.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك