باختصار – شتان بين فرح وفرح
قال الله -تعالى-: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (يونس: 58)، جاء الخطاب موجهًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته من بعده، أن يكون احتفاؤهم وفرحهم بفضل الله -تعالى- ورحمته عليهم وهما القرآن والإسلام وما يتبعهما من أمور الدين والعبادات؛ فإنهما أعظم نعمة ومنَّة تفضل الله بها عليهم، ذلك خيرٌ من كل ما يجمعه الناس من زينة الدنيا وزهرتها ومتاعها؛ فالفرح (بفضل الله) بالإسلام، (وبرحمته): القرآن الكريم. قال ابن القيم: -رحمه الله-: «وقد دارت أقوال السلف على أن فضل الله ورحمته: الإسلام والسُنَّة، وعلى حسب حياة القلب يكون فرحه بهما، وكلما كان أرسخ فيهما كان قلبه أشد فرحًا»، فالقرآن والسنَّة هما المصدران العظميان اللذان يستحقان أن نفرح بهما، وهذا هو الفرح الحقيقي. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفرح بفضل الله -تعالى- عليه وعلى أمته، فكان - صلى الله عليه وسلم - يفرح بإسلام الناس ونجاتهم من النار، ففي صحيح البخاري: عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ غُلاَمٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ «أَسْلِمْ»؛ فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهْوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم -. فَأَسْلَمَ، فَخَرَج النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ يَقُولُ «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ»؛ هكذا فرح النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسلامه وخرج وهو يقول: «الحمد لله الذي أنقذه بي من النار». كما كان - صلى الله عليه وسلم - يفرح إذا حصل لبعض أصحابه خير، كما فرح بتوبة الله على كعب بن مالك رضي الله عنه الذي كان قد تخلف عن غزوة تبوك بغير عذر، فلما تاب الله عليه فرح حتى كان يبرق وجه، ففي الصحيحين قَالَ كَعْبٌ - رضي الله عنه -: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ «أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ». وكان - صلى الله عليه وسلم - يفرح بسماع الكلام الجميل الذي يدل على الصدق وقوة الإيمان، فلما قال المقداد في يوم بدر للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة:24)، ولكن نقاتل عن يمينك وعن يسارك، ومن بين يديك ومن خلفك، فأشرق وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسرّه ذاك. وفرح النبي الله -صلى الله عليه وسلم - حين دخل مكةً فاتحًا، لكن هذا الفرح لم يحمله على الكِبر والبطر، بل كان متواضعًا خاضعًا لله -عز وجل-، مع أنه في موطن نصر وعِزّ وتمكين وغلبة على أعدائه. إن الفرح الحقيقي هو نعيم القلب وبهجته وسروره، وشتان بين فرحٍ وفرح، شتان بين من فرحه بدنيا فانية ولذةٍ زائلة، أو بأهواءٍ باطلة وبدعٍ مردية، وبين من فرحه كما أمر الله -جل وعلا- في الآية المتقدِّمة بفضل الله وبرحمته، فالفرح الحقيقي للمؤمن هو الفرح بطاعة الله وبفضله. هذا هو الفرح الحقيقي وهذا هو الفضل الذي آتاه اللّه عباده، الفرح بهذه الرحمة التي أفاضها عليهم من الإيمان، هذا هو الفرح الذي يحرر النفس من مطامع الدنيا وأعراضها الزائلة، فيجعل هذه الأعراض خادمة للحياة لا مخدومة، ويجعل الإنسان فوقها وهو يستمتع بها لا عبدًا خاضعًا لها.
لاتوجد تعليقات