باب: ما جاء أن الله احتجز التوبة عن صاحب البدعة
هذا الباب ما زال في سياق أن البدعة أخطر من المعصية، وأخطر من الكبيرة، من وجوه ذلك أن الله احتجز التوبة عن صاحب البدعة؛ فالغالب على صاحب البدعة أنه يرى أنه على حق، وأنه مصيب، وأن عمله من الدين؛ لذلك هو لا يفكر في التوبة.
قال الشيخ -تحت هذه الترجمة-: هذا مروي من حديث أنس ومن مراسيل الحسن، وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة «إن الله احتجز التوبة عن صاحب البدعة» وهو حديث صحيح، ومراسيل جمع مرسل، والحديث المرسل هو الحديث الذي رفعه التابعي إلى النبي من غير ذكر الصحابي.
باب التوبة مفتوح حتى للمبتدعين
ظاهر هذا الحديث أن المبتدع حجز الله عنه التوبة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الحديث الصحيح يقول: «يمرقون من الإسلام ثم لا يعودون إليه»، لكن لو تأملنا لوجدنا أن هناك من المبتدعة من عاد وآب وتاب.
مثال على ذلك: هناك جانب من المبتدعة ناظرهم ابن عباس - رضي الله عنه - فعاد الثلث أو النصف منهم عن بدعتهم، عادوا إلى المنهج الحق، وهذا دليل على أن المبتدع يعود ويتوب الله عليه. مثال آخر: بعض الغلاة في بدعتهم كالخليفة الواثق، والخليفة المتوكل في فتنة خلق القرآن مع الإمام أحمد، كانوا على بدعة القول بخلق القرآن ثم عادوا إلى المنهج الحق. مثال آخر كما يقول الشيخ ابن باز -رحمه الله تعالى-: سحرة فرعون كانوا على شيء ثم عادوا إلى المنهج الحق مع موسى -صلى الله عليه وسلم .
كيف نفهم الحديث؟
ذكر أهل العلم أن هذا الحديث وأمثاله فيمن أُشرِب قلبه البدعة وتغلغلت قلبه، فهو يعمل بها، ويدعو إليها، ويستحسنها، ويراها دينا وعملا صالحا، كما جاء في الحديث الذي مر بنا سابقا «سيخرج من أمتي قوم تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه»، هذا الصنف من المبتدعة ينطبق عليهم الحديث، فهو تشرّب البدعة وصار رأسا فيها، وداعية فيها، يراها منهجا وحياة ودينا ومصلحة، فهو رأس ومُستفيد ووجيه فيها، هذا يصعب رجوعه كما هو مُشاهد في الفِرق الباطلة في وقتنا هذا، الرأس في البدعة صعب نقاشه، وصعب أن يرجع؛ فهذا تحتجز عنه التوبة بمعنى أنه لا يُوَفّق إلى التوبة.
صنف آخر من المبتدعة
بينما هناك صنف آخر من المبتدعة ليسوا رؤوسا فيها، إنما عنده شيء من بدعة دخلت إلى عمله، إن كان صلاة، أو أذكارا أو عبادة، هذا يختلف عن ذاك؛ لأنه قد يسمع منك إذا ناصحته وذكرت له الدليل الصحيح، فقد يتوب مثل هذا، ويتوب الله عليه.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: وذكر ابن وضّاح قال: عن أيوب، قال: كان عندنا رجل يرى رأيًا فتركه، فأتيت محمد بن سيرين فقلت: أشعرت أن فلان ترك رأيه؟ قال: انظر إلى ماذا يتحول، إن آخر الحديث أشد عليهم من أوله، يمرقون من الإسلام ثم لا يعودون إليه.
هذا الأثر فيه أن رجلا كان على بدعة الخوارج، وكان له صديق، هذا الصديق هو الذي أتى إلى ابن سيرين عندما رأى هذا الخارجي ترك فكر الخوارج فَرِحا له بتوبته، لكن ابن سيرين -رحمه الله تعالى بفقهه- قال: تريث، وانظر إلى ما يتحول، وقال ابن سيرين هذا الكلام لأن عنده حديثا آخر للنبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه أن آخر الحديث -حديث النبي في الخوارج- قال: يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. قال: يمرقون من الإسلام ثم لا يعودون إليه.
الأكابر في البدعة
الأكابر في البدعة يصعب تركهم للبدعة، وإذا تركوها تحولوا إلى بدعة أشد منها، وهذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في أكابر أهل البدع، وفي رؤوس أهل البدع، أنهم يمرقون من الإسلام ثم لا يعودون إليه. وابن سيرين بفقهه علّمنا أن ننتبه وننظر إلى ما يتحول، فإذا تحول إلى خير فالحمد لله، وإلا فإنه كما قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم -. فالغالب في أهل البدع ممن يؤمنون ببدعتهم ويدعون إليها أنهم لا يوفقون إلى توبة، ولو ترك هذا المنهج وتَنَقّل إلى مناهج أخرى، فإنه يتنقّل إلى مناهج باطلة.
وهذا لا يُفهم منه أنّ كل صاحب بدعة لا يوفق إلى التوبة، بدليل من الكتاب والسنة، يقول الله -سبحانه وتعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}؛ فإذا كان المشرك الكافر يتوب من كفره ويصبح مسلما، فإن صاحب البدعة أولى أن يرجع.
يمرقون من الإسلام ثم لا يعودون إليه
وسُئل الإمام أحمد عن معنى هذا الحديث «يمرقون من الإسلام ثم لا يعودون إليه» قال: لا يوَفّق للتوبة؛ لأنه يقوم ويقعد على بدعته، منتفع بها، مُوقّر، مقدم في محيطه، يستفيد منها المال والجاه وغير ذلك، ويؤمن بها ويراها دينا ويدعو إليها، فلما تأتيه التوبة لا يوفق إليها. أحيانا يأتي الخير إلى الإنسان وهو في مكانه، ولا يوفّق إلى الأخذ به. ورأينا أناسا يدعون إلى الصدقة مثلا، وهو يعرف أن فلانا محتاج، لكنه لا يستطيع أن يُخرج الدينار ليعطيه. فطاعة الصدقة وصلت إليه بخلاف الزكاة، لكن تجده لا يوفق لذلك، إما من بخل أو من معاص أخرى.
الحذر من الوقوع في البدعة
ونستفيد مما سبق، أن المسلم يجب أن يكون دائم الحذر من الوقوع في البدعة ومخالطة أهل البدع. وهذا يكون بأمور:
- أولا: لابد أن يطلب العلم.
- ثانيا: لا نجالس أهل البدع، إلا إذا كنا دعاة ندعوهم ونناصحهم، أما أن نجالسهم مصانعة ومجاملة سنتأثر بهم، لأنه إن لم تكن مؤثرا ستكون متأثرا.
التعامل مع أهل البدع
قال سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز -رحمه الله- في كيفية التعامل مع أهل البدع: الواجب هجرهم على بدعتهم، إذا أظهروا البدعة؛ فالواجب هجرهم بعد النصيحة والتوجيه؛ فإن المسلم ينصح أخاه، ويحذره مما حرم الله عليه من البدع والمعاصي الظاهرة، فإن تاب وإلا استحق أن يهجر، ولا يعامل، لعله يتوب ويندم ويرجع إلى الصواب، إلا إذا كان الهجر يترتب عليه ما لا تحمد عقباه، فإنه لا يهجره، بل يداوم على نصحه وتحذيره من الباطل، ولا يهجره رجاء أن يهديه الله بسبب ذلك، فالمؤمن كالطبيب إذا رأى العلاج نافعًا، فعله، وإذا رأى أنه ليس بنافع، تركه، فالهجر من باب العلاج، فإن كان الهجر يؤثر خيرًا وينفع، هجر، وكان ذلك من باب العلاج، لعله يتوب، ولعله يرجع عن الخطأ إذا رأى من إخوانه أنهم يهجرونه، أما إذا كان الهجر يسبب مزيدًا من الشر، وكثرة أهل الشر وتعاونهم، فإنه لا يهجر، ولكن يديم النصح والتوجيه، وإظهار الكراهة لما عمل، ولا يبين له موافقته على باطله، ولكن يستمر في النصيحة والتوجيه.
لاتوجد تعليقات