رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 1 أغسطس، 2016 0 تعليق

الوقف ودوره في حفظ كرامة العلماء

شهدت بلاد الأندلس حركة علمية نشيطة من المكتبات والمدارس واحتفل أهل قرطبة بتشييع آخر أمي في القرن التاسع عشر ببركة الأوقاف التي أوقفت للعلماء

كان للوقف في العهود الإسلامية الأولى دور في انتشار العلم والعلماء وحركة التأليف والاجتهاد والإبداع

 

الوقف من أهم روافد عزة العلماء في سالف الزمان؛ الأمر الذي جعلهم لا يخضعون رقابهم لمخلوق مهما علا منصبه، وجعلهم كذلك في طليعة الصفوف، يتقدمون الناس ولا يتقدم عليهم أحد؛ لإخلاصهم وعزهم بالله تعالى خالقهم، من هنا قال القائل:

كانوا أجل من الملوك جلالة                                وأعز سلطاناً وأفخم مظهراً

    وجعلهم الوقف أيضاً في غنى وكرامة، تملأ قلوبهم؛ فقد كفل الوقف للدعاة، والعلماء، والفقهاء في مختلف العصور الإسلامية فرص العيش الكريم، الذي يضمن لهم الاستقرار حتى يمكنهم من أداء رسالتهم على أكمل وجه، ويكونوا أحراراً في اختيار الدراسات، والبحوث، والكتب التى تستخدم في العملية التعليمية، وأوسع من ذلك الحرية التي أتاحت لهم قول الحق، وتعضيد حرية الفكر والتعبير عنه، وإصدار آراء وأحكام اتفقت مع الشريعة، وأجبرت السلطة الزمنية على الخضوع لقيم الشريعة».

عزة الدعاة

     وتتمثل عزة الدعاة في عدم سؤال المخلوقين، والطلب منهم، مهما علت مناصبهم، وكثرت أموالهم، فلا يسألون إلا الله، ولا يتذللون إلا له، ولا يضعون حوائجهم إلا بين يديه. ومن ذلك ما ذكره عبد الله بن الإمام أحمد -رحمهما الله- قال: كنت أسمع أبي كثيرا يقول في دبر الصلاة: «اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك صنه عن المسألة لغيرك»، وتمثلت هذه العزة في حياة الإمام، وصارت حقيقة ثابتة، وواقعا ملموسا، فقد قال عنه إسحاق بن راهويه: لما خرج أحمد ابن حنبل إلى عبد الرزاق انقطعت به النفقة، فأكرى نفسه من بعض الجمالين إلى أن وافى صنعاء، وقد كان أصحابه عرضوا عليه المواساة فلم يقبل من أحد شيئا.

لقد منح الوقف علماء الأمة سياجاً في مقاومة الجور والظلم، خلال عهود انحراف الدولة نحو ضوابط الشرع فى التصرفات الإنسانية بالأموال، والثروات.

     ففي العهود الإسلامية الأولى كان للوقف دور في انتشار العلم والعلماء وحركة التأليف والاجتهاد والإبداع؛ فـهي المورد الأساس الذي وفر كل متطلبات العلماء وطلبة العلم والمبدعين من كتب نادرة منسوخة أو أصلية، وقد أحصى ابن الجوزي عدد الكتب الموقوفة في مكتبة واحدة هي المدرسة النظامية في وقته، فبلغ ستة آلاف كتاب؛ فالمكتبات الوقفية حفظت الكتب والمخطوطات ويسرتها للمطلعين من غني وفقير، ورجال ونساء، وأحرار وعبيد ومماليك، حتى حراس المكتبات وعمال نقل الكتب سهلت لبعضهم القرب من الكتب الاطلاع والارتقاء.

علماء رعتهم الأوقاف

حرر الوقف العلماء من حبس المكان، ومكنهم من الانتقال في أرجاء العالم الإسلامي ليمارسوا وظائفهم في التعليم والتأليف، حتى إن كثيرًا منهم ولدوا في بلد، وتعلموا في آخر، وعملوا في ثالث وألفوا في رابع، وقد يتوفاهم الله عز وجل في بلد آخر.

     وكان الوقف - بمؤسساته وريعه وصرفه على الدعاة وطلبة العلم - الداعم الأساس لجيوش الدعوة التي كانت تلي جيوش الفتح، لنشر الإسلام وتعاليمه، ونشر الدين بين المسلمين الجدد، ونسخ كتاب الله تعالى وتوفيره بين المسلمين، وكذلك الكتب الإسلامية في شتى العلوم، والعلماء الذين رعتهم الأوقاف سيرهم مسطرة في صفحات التأريخ، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

     الإمام محيى الدين أبو زكريا يحيى بن شرف النووى الذي يحكي عن نفسه: «فلما كان لي تسع عشرة سنة قدم بي والدي إلى دمشق سنة تسع وأربعين، فسكنت المدرسة الرواحية، وبقيت سنتين لم أضع جنبي إلى الأرض، وكان قوتي بها جراية المدرسة لا غير».

المدارس الوقفية

     ونذكر مثالاً آخر لدور الوقف في حفظ العلم ورعاية العلماء: فخلال الحروب مع التتار وسقوط بغداد سنة 656هـ وتدميرها ونهب كنوزها، بقيت مصر والشام جبهتان صامدتان في وجه بربرية التتار ووحشيتهم، هذا ما دفع الكثير من العلماء للانتقال إلى مصر والشام؛ مما أثرى النشاط العلمي وحركة التعليم والتأليف، وأنشئت مدارس ومكتبات وقفية متنوعة، استوعبت تلك الأوقاف من المدارس والكتاتيب والمكتبات العلماء على اختلاف اهتماماتهم ومذاهبهم، ورعتهم خير رعاية، كأمثال العلامة الحافظ ابن رجب الحنبلي (736-795هـ)؛ فقد كان في عهده في دمشق آنذاك ثلاثمائة وخمسون مدرسة فقهية، ومن أهمها المدرسة السُكّرية التي كان يسكنها رحمه الله.

     ورغبة في العلم وانتشاره أغدق المسلمون في الإنفاق على العلم والعلماء، يقول (فيليب حتى): «إن المؤرخ الجغرافي ياقوت الحموي بقي مدة ثلاث سنوات يعيش على أموال الوقف المرصدة على المكتبات في مدينتي – مرو وخوارزم – لوحدهما منقباً وباحثاً لإكمال معجمه المعنون – معجم البلدان – ولم يترك هذه المكتبات إلا عندما اضطر للهروب من جحافل (جنكيزخان) الذي أشعل النار في هذه المكتبات».

مساعدة الشباب على طلب العلم

     وتحدث ابن خلدون في مقدمته عن الفتيان الذين ولدوا وترعرعوا في القرى والأرياف البعيدة عن المدن والعمران، ولكن لم تتوافر لهم الفرصة للتعليم والارتقاء في مجتمعاتهم المتواضعة فكان لزاماً عليهم الهجرة والسفر من أجل الحصول على تعليم يحقق لهم طموحهم العلمي والفني.. يقول ابن خلدون:  «إن ما ساعد مثل هؤلاء الشباب هو ترف ما أُغدق على معاهد التعليم والتدريب في المدن من موقوفات جعلت الهجرة إلى مراكز الحضارة من أجل طلب العلم أمراً مشروعاً»، ثم يعطي أمثلة على ذلك في بغداد وقرطبة والكوفة والبصرة والقيروان، كل ذلك بما وفرته الأموال الموقوفة.

      واندهش ابن جُبير -الرحالة الأندلسي- مما رأى في المشرق من كثرة المدارس والغلات الوافرة التي تغل أوقافها، فدعا المغاربة أن يرحلوا إلى لمشرق لتلقي العلم، ومما قاله في هذا: «وتكثر الأوقاف على طلاب العلم في البلاد المشرقية كلها، وبخاصة دمشق، فمن شاء الفَلاَح من أبناء مغربنا فليرحل إلى هذه البلاد، فيجد الأمور المعينة على طلب العلم كثيرة، وأولها فراغ البال من أمر المعيشة».

ولم تكن لتزدهر تلك المدارس، التي كانت تبنى من مال الوقف، ويرفق معها مرافق أساسية من سكن الطلبة وأساتذتهم، وتخصص منح للطلبة المنتسبين للمدرسة وهي كالأحياء الجامعية بكل متطلباتها.

وكان لنماء مال الوقف دور في الإنفاق على المدارس ومرافقها، فكانت أجور المدرسين مناسبة لمعيشتهم حتى لا يبحثون عن عمل آخر ليكملوا حاجاتهم المعيشية، فقد كفتهم أحوال الوقف عن التفكير في أمر تدبير المعيشة لهم ولأسرهم.

القضاء على الأمية

     لذلك يعد ما قام به الوقف في العصور السابقة دليلاً ساطعاً على نجاح مؤسساته في القضاء على الأمية؛ فقد شهدت بلاد الأندلس حركة علمية نشيطة من المكتبات والمدارس، واحتفل أهل قرطبة بتشييع آخر أمي في القرن التاسع عشر، بل وجذبت قرطبة إليها في أوج ازدهارها آلافاً من اليهود والمسيحيين، ويذكر أن الطلبة من كل أنحاء الدنيا تدفقوا على بلاد الأندلس وعلى قرطبة ليتعلموا منها، ولاسيما أيام حكم الأمويين بين القرنين الثامن والحادي عشر.

توفير العيش الكريم للعلماء

     وبذلك فإن الأوقاف الخيرية كانت أهم موارد توفير العيش الكريم للعلماء والمدرسين؛ فقد شجع مال الوقف على طلب العلم فإن الاطمئنان على دخل يؤمن للإنسان ما يحتاجه من مال فى هذه الحياة يريح العالم من هم القوت ليتفرغ لطلابه وبحثه، فيتفرغ للسائلين والدارسين خصوصاً إذا كانت تلك الأوقاف مجزية كما هو الحال فى أكثر أوقاف المدارس والمساجد.

فإن توفير الوقف للمبنى والمدرس، وإتاحة الكتب، وتخصيص نفقات للطلاب إلى توفير الحبر والورق، والطعام والكساء وغير ذلك مما يوفر لطلبة العلم كل سبل الراحة حتى يتمكنوا من التحصيل دون أى عائق مادى.

توفير احتياجات الطلبة الدراسين

      ومن مفاخر الوقف الخيرى فى كثير من العواصم الإسلامية أنه قام بتوفير كافة احتياجات الطلبة الدارسين من دور العلم المختلفة، وكذا مدرسيهم وبالأخص المسكن الملائم كى يجد الطلبة والأساتذة الغرباء والطلبة الفقراء من أهل البلد المناخ المناسب لتلقى العلم، فكان من مكملات كثير من المدارس إنشاء مرافق ملحقة بها تخصص لسكنى الطلبة والمدرسين، وكان نظام المساكن الداخلية فى المدارس من مفاخر التعليم الإسلامى؛ حيث ساعد على توفير الجو المناسب للطلبة والمدرسين كى ينقطعوا لطلب العلم.

     وهكذا فقد كان الوقف مصدر دخل ثابت للعلماء الذين قاموا بالتدريس، ووفر لهم سبل المعيشة الكريمة بعيداً عن الروتين المعقد فى بعض الأحيان؛ فالراتب الذى يتقاضاه العلماء من مال الوقف ليس أجراً على تعليم العلم، وتبليغ دعوة الله عز وجل، وإنما كان جزاء احتباس العلماء هذه الفترة من حياتهم لتعليم العلم.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك